للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَنُكْتَةُ تَعْدِيَةِ الْإِيمَانِ بِالْبَاءِ فِي اللهِ تَعَالَى. وَبِاللَّامِ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى الْأَصْلِ فِي آمَنَ بِهِ ضِدَّ كَفَرَ بِهِ، وَصَدَّقَ بِهِ ضِدَّ كَذَّبَ بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ ضَمِنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالِائْتِمَانِ وَالْجُنُوحِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ (٢٩: ٢٦) وَقَوْلِهِ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ (١٠: ٨٣) وَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ قَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا (١٢: ١٧) وَقَوْلِهِ فِي جِدَالِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (٢٦: ١١١) فَفِي كُلِّ هَذَا مَعْنَى التَّصْدِيقِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِائْتِمَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَيْلِ عَنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي إِيمَانِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، لَا فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ كَذِبُهُمْ فِي زَعْمِهِمْ تَصْدِيقَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُمْ فِيمَا يَعْتَذِرُونَ لَهُ، فَهُوَ لَا يُصَدِّقُهُمْ وَإِنْ حَلَفُوا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ الْكَاذِبِينَ.

وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ عَلَى كَوْنِهِ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا مِنْكُمْ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا؛ إِذْ كَانَ سَبَبَ إِيمَانِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، دُونَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكَفْرَ مُنَافِقًا فَهُوَ نِقْمَةٌ عَلَيْهِ فِي الدَّارَيْنِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢: ٢١٨) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ كَانَ قَوْلُهُ: (مِنْكُمْ) تَعْرِيضًا بِغَيْرِ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ لَا تَصْرِيحًا. وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَالِمٌ بِأَنَّ مِنْهُمْ مُنَافِقِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ وَأَشْخَاصَهُمْ، وَيَخْشَى أَنْ يُخْبِرَهُ رَبُّهُ بِهِمْ وَيَكْشِفَ لَهُ عَنْ أَسْرَارِ قُلُوبِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ (٦٤) وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا مِنْهُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَإِنَّهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ بِقَبُولِ ظَوَاهِرِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِهَا مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: لِلَّذِينِ آمَنُوا فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَقُلِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَصْفِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ. وَكَثِيرًا مَا نَاطَ التَّنْزِيلُ الْجَزَاءَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ أَهْلِهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ (وَرَحْمَةٍ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى (خَيْرٍ) قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ لَكُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَمَا فُصِلَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَلْ هُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ كَافَّةً. وَأُذُنُ رَحْمَةٍ لِلَّذِينِ آمَنُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، فَكُلُّ مَا فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ أَنَّ لِينَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلُطْفَهُ وَإِلْقَاءَهُ السَّمْعَ إِلَى مُحَدِّثِهِ، وَعَدَمَ مُعَامَلَتِهِ بِمُقْتَضَى سِرِّهِ وَسَرِيرَتِهِ، هُوَ خَيْرٌ لِلْمُنَافِقِينَ مِنْ عَدَمِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِمَا يُخْفُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِقَطْعِ رِقَابِهِمْ، وَبَقَاؤُهُمْ خَيْرٌ لَهُمْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ لَفْظِ الْخَيْرِ، وَخَيْرٌ لَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ إِمْهَالٌ لَهُمْ يُرْجَى أَنْ يَتُوبَ بِسَبَبِهِ مَنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِمَا يَرَاهُ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْخَيْرِيَّةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>