للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ لِلْجَمِيعِ، وَالرَّحْمَةُ دُنْيَوِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا إِرْسَالُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ عُمُومُ دَعْوَتِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَا أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ كَمَنْ آمَنَ بِهِ.

وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ يُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ، فَجَزَاؤُهُ ضِدُّ جَزَائِهِ وَهُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ الْإِيلَامِ، وَفِي إِضَافَةِ الرَّسُولِ إِلَى اسْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيذَانٌ بِأَنَّ إِيذَاءَهُ إِيذَاءً لِمُرْسِلِهِ أَيْ: سَبَبٌ لِعِقَابِهِ، كَمَا أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لَهُ وَسَبَبٌ لِثَوَابِهِ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ (٤: ٨٠) وَقَوْلُهُ: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ هِيَ خَبَرٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَفِي هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِهَا.

الْآيَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كُفْرٌ إِذَا كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّ إِيذَاءَهُ فِي رِسَالَتِهِ، يُنَافِي صِدْقَ الْإِيمَانِ بِطَبِيعَتِهِ، وَأَمَّا الْإِيذَاءُ الْخَفِيفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَادَاتِ وَالشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ حَرَامٌ، لَا كُفْرٌ، كَإِيذَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيلُونَ الْمُكْثَ فِي بُيُوتِهِ عِنْدَ نِسَائِهِ بَعْدَ الطَّعَامِ فَنَزَلَ فِيهِمْ: إِنَّ ذَلِكُمْ

كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا (٣٣: ٥٣) وَقَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فِي نِدَائِهِ وَيُسَمُّونَهُ بِاسْمِهِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٤٩: ٢) فَهَذِهِ آدَابُ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ مَعَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِي التَّقْصِيرِ فِيهَا خَطَرُ حُبُوطِ الْأَعْمَالِ بِدُونِ شُعُورٍ مِنَ الْمُقَصِّرِ.

وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ إِيذَاءَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، كَإِيذَائِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ نِكَاحُ أَزْوَاجِهِ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْهُ الْخَوْضُ فِي أَبَوَيْهِ وَآلِ بَيْتِهِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوهُ ذَنْبًا لَا كُفْرًا، وَلَاشَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَانِعٌ مِنْ تَصَدِّي الْمُؤْمِنِ لِمَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَنْ يُؤْذِيَهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِيذَاءً مَا. وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَا يُؤْذِي أَحَدًا مِنْ سَلَائِلِ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّنَازُعِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ وَالْمُخَاصَمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ: لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَنْسُوبُ إِلَى الْآلِ الْكِرَامِ جَانِيًا آثِمًا وَمُعْتَدِيًا ظَالِمًا. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ (٤: ١٤٨) وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَسَبَبُهُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: " دَعُوهُ إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا " الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ فَاطِمَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>