قَبِيلِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ، وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي رَوَابِطِ الِاجْتِمَاعِ، وَبَيْنَ الْوَقَائِعِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُعَدُّ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالسُّنَنِ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: أَهْلُ النِّفَاقِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مُتَشَابِهُونَ فِيهِ وَصْفًا وَعَمَلًا، كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ عَيْنُ الْآخَرِ كَمَا قِيلَ:
تِلْكَ الْعَصَا مِنْ هَذِهِ الْعُصَيَّهْ ... هَلْ تَلِدُ الْحَيَّةُ إِلَّا حَيَّهْ
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (٣: ٣٤) وَفِي اسْتِجَابَتِهِ لِدُعَاءِ الذَّاكِرِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ: لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (٣: ١٩٥) ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا التَّشَابُهَ بِقَوْلِهِ: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ، الْمُنْكَرُ الشَّرْعِيُّ: مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَيَسْتَقْبِحُهُ، وَالْمُنْكَرُ الْعَقْلِيُّ وَالْفِطْرِيُّ: مَا تَسْتَنْكِرُهُ الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ وَالْفِطَرُ السَّلِيمَةُ، لِمُنَافَاتِهِ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَنَافِعِ الْفَرْدِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَالشَّرْعُ: هُوَ الْقِسْطَاسُ الْمُسْتَقِيمُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْمَعْرُوفُ: مَا يُقَابِلُ الْمُنْكَرَ
مُقَابَلَةَ التَّضَادِّ، وَمِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ وَالْفُجُورُ وَالْغَدْرُ بِنَقْضِ الْعُهُودِ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَنْهَوْنَ عَنْهُ الْجِهَادُ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلْقِتَالِ وَغَيْرِ الْقِتَالِ. كَقَوْلِهِمُ الَّذِي ذُكِرَ فِي سُورَتِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا (٦٣: ٧) .
وَقَبْضُ الْأَيْدِي: ضَمُّ أَصَابِعِهَا إِلَى بَاطِنِ الْكَفِّ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْبَذْلِ، كَمَا أَنَّ بَسْطَ الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْفَاقِ وَالْبَذْلِ، فَهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْبَذْلِ، وَيَمْتَنِعُونَ مِنْهُ بِالْفِعْلِ، وَاقْتَصَرَ مِنْ مُنْكَرَاتِهِمُ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ شَرُّهَا وَأَضَرُّهَا، وَأَقْوَاهَا دَلَالَةً عَلَى النِّفَاقِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَقْوَى الْآيَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ كَثِيرَةٌ جِدًّا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْأَنْفَالِ وَهَذِهِ السُّورَةِ.
نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ أَيْ: نَسُوا اللهَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ لَمْ يَعُدْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ لَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالشُّكْرِ، فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute