فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ مِنَ الرِّيَاءِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ حَذَّرَهُمْ رَبُّهُمْ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَلَاسِيَّمَا فِي الْبُخْلِ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا (٢: ٢٦٨) الْفَحْشَاءُ: مَا فَحُشَ قُبْحُهُ وَعَظُمَ كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْبُخْلِ الشَّدِيدِ، وَفُسِّرَتْ بِهِ فِي الْآيَةِ كَمَا فُسِّرَ الْفَاحِشُ بِالْبَخِيلِ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
وَأَمَّا نِسْيَانُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى نِسْيَانِهِمْ إِيَّاهُ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ فَوَائِدِ ذِكْرِهِ، وَفَضِيلَةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالْإِنْفَاقِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَلُطْفِهِ فِي الدُّنْيَا، وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (٦٩) فَالْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ لَازِمُهُ وَهُوَ جَعْلُهُمْ كَالْمَنْسِيِّ الَّذِي لَا يُتَعَهَّدُ، وَلَا يُعْتَنَى بِشَأْنِهِ. لَا كَالْمَنْسِيِّ مُطْلَقًا. إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الرَّاسِخُونَ فِي الْفُسُوقِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ مُحِيطِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِهِ، النَّاكِبُونَ عَنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى طُرُقِ الشَّيْطَانِ وَرَذَائِلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (: ٥٣) وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَلَمْ يُذْكَرْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا صَحَّ هُنَا ; لِأَنَّهُ فِي جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْحَصْرُ فِيهِمْ إِضَافِيٌّ، فَهُمْ أَشَدُّ فُسُوقًا مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْعُصَاةِ، حَتَّى الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ عَقَائِدِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَتَعَالِيمِهِمُ الْمُنْكَرَةِ، فَلَا يَبْلُغُ فُسُوقُهُمْ وَخُرُوجُهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ بِمُخَالَفَةِ دِينِهِمْ، وَلَا الْخُرُوجُ مِنْ فَضَائِلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، حَدَّ فُسُوقِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُخَالِفُ ظَاهِرُهُمْ بَاطِنَهُمْ، وَالْمُرَجَّحُ فِي تَفْصِيلِ حَالِهِمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَنَاهِيكَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا تَأَخَّرَ.
ثُمَّ قَفَّى تَعَالَى عَلَى بَيَانِهِ حَالَهُمْ هَذِهِ بِذِكْرِ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ وَلِإِخْوَانِهِمُ الْكُفَّارِ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ: وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا الْوَعْدُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِيمَا يَنْفَعُ وَفِيمَا يَضُرُّ، وَالْوَعِيدُ خَاصٌّ بِالثَّانِي، وَلَا يَكَادُ يُذْكَرُ الْوَعْدُ فِيهِ إِلَّا مَعَ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ (ص٣٧٨) مِنْ هَذِهِ الطَّبْعَةِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَافِقَاتِ مَعَ الْمُنَافِقِينَ لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّ فِي النِّسَاءِ نِفَاقًا كَالرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي طِبَاعِ النَّاسِ، كَمَا قَرَنَ ذِكْرَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي صِفَاتِ الْإِيمَانِ
وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْكُفَّارِ فِي مَقَامِ الْوَعِيدِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَعَمِلُوا أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ - شَرٌّ مِنَ الْكُفَّارِ الصُّرَحَاءِ، وَلَاسِيَّمَا الْمُتَدَيِّنِينَ مِنْهُمْ بِأَدْيَانٍ بَاطِلَةٍ مِنَ الْأَصْلِ أَوْ مُحَرَّفَةٍ وَمَنْسُوخَةٍ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَبَيَّنَا وَجْهَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute