مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا خَاصًّا بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) الْآيَةَ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّأْوِيلَ وَالْفَهْمَ
الْفَاسِدَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَدَّوُا الزَّكَاةَ إِلَى الْخَلِيفَةِ كَمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا - وَفِي رِوَايَةٍ عِقَالًا - كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالسِّيَرِ وَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَهَاكَ مَعْنَى الْآيَةِ.
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) أَيْ خُذْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ ذُكِرَ، وَمِنْ سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ - عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا مَالُ التِّجَارَةِ - صَدَقَةً مُعَيَّنَةً كَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ التَّطَوُّعُ - فَالصَّدَقَةُ مَا يُنْفِقُهُ الْمُؤْمِنُ قُرْبَةً لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَفَقَةِ مُؤْمِنِي الْأَعْرَابِ (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) أَيْ تُطَهِّرُهُمْ بِهَا مِنْ دَنَسِ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ وَالدَّنَاءَةِ وَالْقَسْوَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْبَائِسِينَ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَتُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ بِهَا: أَيْ تُنَمِّيهَا وَتَرْفَعُهَا بِالْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ الْخُلُقِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ حَتَّى تَكُونَ بِهَا أَهْلًا لِلسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَالْمُطَهِّرُ هُنَا الرَّسُولُ وَالْمُطَهَّرُ بِهِ الصَّدَقَةُ. وَالتَّزْكِيَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الزَّكَاءِ وَهُوَ نَمَاءُ الزَّرْعِ وَنَحْوُهُ، قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: رَجُلٌ زَكِيٌّ زَائِدُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ بَيِّنُ الزَّكَاءِ وَالزَّكَاةِ، (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً) (١٩: ١٣) اهـ.
وَالتَّزْكِيَةُ لِلْأَنْفُسِ بِالْفِعْلِ تُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمُقَدِّرُ الْمُوَفِّقُ لِلْعَبْدِ لِفِعْلِ مَا تَزْكُو بِهِ نَفْسُهُ وَتَصْلُحُ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) ٢ (٤: ٢١) وَتُسْنَدُ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَبِّي لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا تَزْكُو بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَيَعْلُو قَدْرُهَا بِسُنَّتِهِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ فِي بَيَانِ كِتَابِ اللهِ، وَمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (٦٢: ٢) فَتَزْكِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأُمَّةِ مِنْ مَقَاصِدِ الْبَعْثَةِ وَتُسْنَدُ إِلَى الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْفَاعِلَ لِمَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِطَهَارَةِ نَفْسِهِ وَزَكَائِهَا كَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (٩١: ٩، ١٠) وَقَوْلُهُ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (٨٧: ١٤ و١٥) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) (٤: ٤٩) وَقَوْلُهُ (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (٥٣: ٣٢) فَهُوَ فِي زَكَاءِ النَّفْسِ بِدَعْوَى اللِّسَانِ، فَالتَّزْكِيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُزَكَّى وَهِيَ الْأَصْلُ وَعَلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute