(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: (صَلَاتُكَ) بِالْمُفْرَدِ أَيْ جِنْسُهَا وَالْبَاقُونَ: (صَلَوَاتُكَ) بِالْجَمْعِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ جَمَاعَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ. وَالصَّلَاةُ اسْمٌ مِنْ صَلَّى يُصَلِّي تَصْلِيَةً، وَقَدْ هُجِرَ لَفْظُ التَّصْلِيَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ:
تَرَكْتُ الدِّنَانَ وَعَزْفَ الْقِيَانِ ... وَأَدْمَنْتُ تَصْلِيَةً وَابْتِهَالًا.
وَمَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الدُّعَاءُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَسُمِّيَتِ الْعِبَادَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ صَلَاةً مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِأَهَمِّ أَجْزَائِهِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا، وَقِيلَ فِي التَّعْلِيلِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالصَّلَاةُ مِنَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الرَّحْمَةُ وَالْحَنَانُ، وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (٣٣: ٤٣) ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (٣٣: ٥٦) وَصَلَاتُنَا عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعَاؤُنَا لَهُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِنَا فِي دُعَاءِ الْأَذَانِ الْمَأْثُورِ: ((اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا، وَالسَّكَنُ: مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَتَرْتَاحُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَتَاعٍ وَثَنَاءٍ.
وَالْمَعْنَى ادْعُ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلْمُتَصَدِّقِينَ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ عَاطِفًا عَلَيْهِمْ: إِنَّ دُعَاءَكَ وَاسْتِغْفَارَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، يَذْهَبُ بِهِ اضْطِرَابُ أَنْفُسِهِمْ إِذَا أَذْنَبُوا، وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِأَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا تَابُوا وَيَرْتَاحُونَ إِلَى قَبُولِ اللهِ صَدَقَاتِهِمْ بِأَخْذِكَ لَهَا، وَوَضْعِكَ إِيَّاهَا فِي مَوَاضِعِهَا (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أَيْ سَمِيعٌ لِدُعَائِكَ سَمَاعَ قَبُولٍ وَإِجَابَةٍ، عَلِيمٌ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَالْمُرَادُ مِنَ السَّمَاعِ وَالْعِلْمِ لَازِمُهُمَا. وَسَمِيعٌ لِاعْتِرَافِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، عَلِيمٌ بِنَدَمِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ مِنْهَا، وَبِإِخْلَاصِهِمْ فِي صَدَقَتِهِمْ وَطِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِهَا، فَهُوَ الَّذِي يُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا، فَجُمْلَةُ (إِنَّ صَلَاتَكَ) تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ، وَتَذْيِيلُهَا
بِالتَّذْكِيرِ بِسَمْعِ اللهِ وَعِلْمِهِ إِشْعَارٌ بِقَبُولِ الدُّعَاءِ وَقَبُولِ الطَّاعَاتِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَتُصَرِّحُ بِهِ الْآيَةُ التَّالِيَةُ.
رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلَانٍ)) فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: ((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى)) فَقَوْلُهُ: بِصَدَقَتِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا زَكَاةُ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ صَدَقَةُ الْفَرِيضَةِ أَوْ مَا يَعُمُّ الْفَرِيضَةَ وَغَيْرَهَا، وَعَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِوُجُوبِ الدُّعَاءِ عَلَى آخِذِي الزَّكَاةِ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَهُمْ. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِلْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: (بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)) - إِلَى قَوْلِهِ: - ((سَكَنٌ لَهُمْ)) وَالْجُمْهُورُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute