إِنْفَاقِهِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لِجَمْعِ الثَّرْوَةِ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَى طِبَاعِهِمُ الْحِرْصُ وَالْبُخْلُ حَتَّى عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأُولِي قُرْبَاهُمْ، وَبِهَذَا يَكُونُ بَعْضُهُمْ فِتْنَةً - أَيِ امْتِحَانًا - لِبَعْضٍ وَمَثَارًا لِلتَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (٢٥: ٢٠) أَيْ ذَلِكَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي تَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ.
وَلَمَّا كَانَ الدِّينُ مُرْشِدًا لِلْبَشَرِ إِلَى تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَقْوِيمِ أَخْلَاقِهِمْ بِمَا تَصْلُحُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ، وَيَرْتَقِي بِهِ أَفْرَادُهُمْ وَجَمَاعَتُهُمْ - شَرَعَ اللهُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَا يَقِيهِمْ شَرَّ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَيُنْقِذُهُمْ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِهْمَالِهَا مِنَ الْمِحْنَةِ فَأَوْجَبَ
عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ مَا يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِ الثَّرْوَةِ فِي الْإِسْلَامِ حَسَنَاتٍ، وَإِنَّنَا لَمْ نَجِدْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَلَا كُتُبِ الْفِقْهِ وَلَا دَوَاوِينِ التَّارِيخِ بَيَانًا عِلْمِيًّا لِحِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ فِي السِّيَاسَةِ الْمَالِيَّةِ وَمَا انْفَرَدَتْ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الْمَعْقُولِ فِيهَا، وَكُنْتُ عَازِمًا عَلَى شَرْحِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَيْهِ وَفَكَّرْتُ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفُرُوعِهَا تَبَيَّنَ لِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهَا إِلَّا بِتَأْلِيفِ سِفْرٍ مُسْتَقِلٍّ وَرَأَيْتُ أَنْ أَكْتَفِيَ هُنَا بِإِيرَادِ أَهَمِّ الْحَقَائِقِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَأَقُولَ:
إِنَّ اتِّسَاعَ دَوَائِرِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَدِ اضْطَرَّ الْبَاحِثِينَ إِلَى انْفِرَادِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ لِلْإِحْصَاءِ فِي كُلِّ فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهَا لِتَمْحِيصِ مَسَائِلِهَا وَالْإِحَاطَةِ بِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، حَتَّى إِنَّ الرِّجَالَ الْمَالِيِّينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا اللَّقَبَ فِيهِ (أَيْ لَقَبَ الْمَالِيِّ) إِلَّا بَعْدَ إِتْقَانِ عِدَّةِ عُلُومٍ مِنْهَا، وَالتَّمَرُّنِ، بِالْعَمَلِ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا، وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الِاجْتِمَاعِيِّينَ مِنْهُمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ جَمِيعَ الثَّوَرَاتِ وَالْحُرُوبِ السِّيَاسِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ ذَاتِ الشَّأْنِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ قَدْ كَانَ الْمَالُ سَبَبَهَا الصَّحِيحَ، أَوْ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَثِّرَةِ فِيهَا أَشَدَّ التَّأْثِيرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ حُرُوبَ أُورُبَّةَ الدِّينِيَّةَ وَلَا حُرُوبَهَا الصَّلِيبِيَّةَ لِلْإِسْلَامِ.
بَلْ نُشِرَ مُنْذُ سِنِينَ كِتَابٌ عَرَبِيٌّ طُبِعَ فِي الْقُدْسِ مَوْضُوعُهُ (الْحَرَكَاتُ الْفِكْرِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ) زَعَمَ مُؤَلِّفُهُ تَابِعًا لِبَعْضِ مُؤَرِّخِي الْإِفْرِنْجِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ فِكْرَةً دِينِيَّةً مَحْضًا بَلْ كَانَ مَسْأَلَةً اقْتِصَادِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً أَيْضًا، أَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنِ الدِّينُ إِلَّا وَسِيلَةً لَهُ، وَنُقِلَ عَنْ (كَايْتَانِي) الْمُؤَرِّخِ الْإِيطَالِيِّ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ دِينِيًّا إِلَّا فِي الظَّاهِرِ وَأَنَّ جَوْهَرَهُ كَانَ سِيَاسِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا قَالَ ((وَمِنْ فَضْلِ مُؤَسِّسِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَظَاهِرِ عَبْقَرِيَّتِهِ أَنَّهُ أَدْرَكَ مَصْدَرَ الْحَرَكَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَيَّامِهِ بِمَكَّةَ عَاصِمَةِ الْحِجَازِ، وَعَرَفَ كَيْفَ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا وَيُسَخِّرُهَا لِأَغْرَاضِهِ السَّامِيَةِ دِينِيَّةً كَانَتْ أَوِ اجْتِمَاعِيَّةً، ثُمَّ بَسَطَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ ظَوَاهِرِ التَّارِيخِ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، خَادِعٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute