أَوْ طَلَبِ الصِّحَّةِ أَوِ الرِّزْقِ فَلَا إِشْكَالَ فِي مَدْحِهَا بِالسِّيَاحَةِ بَلْ يَنْبَغِي اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْحَيَاةِ النَّافِعَةِ.
وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاحَةَ وَالسَّفَرَ لِطَلَبِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ مِنْ تِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا.
وَإِذَا صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَصْحَبُونَ نِسَاءَهُمْ فِي غَزَوَاتِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَهُنَّ غَيْرُ مُكَلَّفَاتٍ بِالْقِتَالِ، بَلْ يُسَاعِدْنَ عَلَيْهِ بِتَهْيِئَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَضْمِيدِ الْجِرَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٩: ٧١) فَلَأَنْ يَصْحَبْنَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ أَوْلَى، وَفِي سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجِهَا إِحْصَانٌ لَهُ وَلَهَا، فَهُوَ مَانِعٌ لِلْمُسْلِمِ مِنَ التَّطَلُّعِ فِي السَّفَرِ إِلَى غَيْرِهَا.
وَعَلَّلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ تَفْسِيرَ السَّائِحِينَ بِالصَّائِمِينَ بِأَنَّ الصَّائِمَ يَتْرُكُ اللَّذَّاتِ كُلَّهَا كَالسَّائِحِ لِلتَّعَبُّدِ، وَمِثْلُهُ أَوْ مِنْهُ قَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ: يُسَمَّى الصَّائِمُ سَائِحًا لِأَنَّ الَّذِي يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ مُتَعَبِّدًا لَا يَحْمِلُ زَادًا فَكَانَ مُمْسِكًا عَنِ الْأَكْلِ. وَلِهَذَا التَّعْلِيلِ خَصَّ بَعْضُهُمْ إِطْلَاقَ وَصْفِ السَّائِحِينَ عَلَى الصَّائِمِينَ بِالَّذِينِ يُدِيمُونَ الصِّيَامَ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَقَالَ: يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَصْفِ صِيَامُ الْفَرْضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ.
وَالصُّوفِيَّةُ يَخُصُّونَ السَّائِحِينَ الْمَمْدُوحِينَ بِالَّذِينِ يَهِيمُونَ فِي الْأَرْضِ لِتَرْبِيَةِ إِرَادَتِهِمْ، وَتَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِاحْتِمَالِ الْمَشَاقِّ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَظَانِّ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ ; لِجَمْعِ الْقَلْبِ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالتَّكَمُّلِ فِي مَنَازِلِ مَعْرِفَتِهِ، كَالسَّيَّاحِينَ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ كَانَ إِطْلَاقُ السِّيَاحَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ذَائِعًا مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: السِّيَاحَةُ: الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ لِلْعِبَادَةِ ; وَمِنْهُ سُمِّي الْمَسِيحُ إِلَخْ، وَاعْتَرَضُوهُ فِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ عُرْفٌ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ اللُّغَةِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السِّيَاحَةِ اللُّغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) (٩: ٢) وَهُوَ أَوَّلُ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص ١٣٦ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) .
وَقَدْ حَدَثَ لِلْمُتَصَوِّفَةِ بِدَعٌ فِي السِّيَاحَةِ كَقَصْدِ مَشَاهِدِ الْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَالِاسْتِمْدَادِ مِنْ أَرْوَاحِ مَنْ دُفِنُوا فِيهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكُونُ لَهُ هَوًى فِي التَّنَقُّلِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ فَيَظَلُّ هَائِمًا فِي الْأَسْفَارِ، وَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ وَعَنِ الزَّوَاجِ، وَيَرْتَكِبُ بَعْضُهُمْ فِيهَا كَثِيرًا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيَكُونُ لَهُمْ طَمَعٌ فِي اسْتِجْدَاءِ النَّاسِ، وَالسُّؤَالُ حَرَامٌ إِلَّا لِضَرُورَةٌ، وَالْفُقَهَاءُ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ سِيَاحَتَهُمْ هَذِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: السِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ لَا لِمَقْصُودٍ وَلَا إِلَى مَكَانٍ مَعْرُوفٍ
مَنْهِيٌّ عَنْهَا.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا تَبَتُّلَ وَلَا سِيَاحَةَ فِي الْإِسْلَامِ)) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا السِّيَاحَةُ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute