للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ، الَّذِينَ امْتَازُوا عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ مِمَّنِ اصْطَفَى اللهُ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ عَنْ مَزِيَّةِ قُرَيْشٍ فِي بَنِي كِنَانَةَ، وَفَضْلِ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ؟

خُلَاصَةُ مَا بَيَّنْتُهُ فِي فَضْلِ الْعَرَبِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، الَّذِي أَعَدَّهُمْ بِهِ اللهُ لِبَعْثَةِ سَيِّدِ الْبَشَرِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، بِالدِّينِ الْعَامِّ الْبَاقِي هِيَ: أَنَّ جَمِيعَ شُعُوبِ الْحَضَارَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا كَانَتْ قَدْ فَسَدَتْ غَرَائِزُهَا وَأَخْلَاقُهَا الْفِطْرِيَّةُ، وَعَقَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ، وَآدَابُهَا التَّقْلِيدِيَّةُ، بِفَسَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيهَا، وَتَعَاوُنِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِعْبَادِهَا وَاسْتِذْلَالِهَا لَهُمَا، وَتَسْخِيرِهَا لِتَوْفِيرِ لَذَّاتِهِمَا وَتَشْيِيدِ صُرُوحِ عَظَمَتِهِمَا، بِسَلْبِ حُرِّيَّتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ بِالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْكَهَنَةُ وَالْأَحْبَارُ وَالْقُسُوسُ الْخُضُوعَ لَهَا، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَدْنَى رَأْيٍ أَوِ اخْتِيَارٍ أَوْ فَهْمٍ فِيهَا، بِسَلْبِ حُرِّيَّةِ إِرَادَتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بِمَا يَضَعُ لَهُمُ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالنُّظُمِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ الِاسْتِبْدَادِيَّةِ، وَبِتَحَكُّمِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ قَانُونٍ وَلَا نِظَامٍ أَيْضًا، فَجَمِيعُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ كَانَتْ مُرْهَقَةً مُسْتَعْبَدَةً فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا إِلَّا الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا عَرَبِ الْحِجَازِ.

وَأَمَّا الْعَرَبُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ رِيَاسَةُ حُكْمٍ اسْتِبْدَادِيَّةٌ تَسْتَذِلُّهُمْ وَتُفْسِدُ بَأْسَهُمْ وَتَقْهَرُ إِرَادَتَهُمْ عَلَى مَا لَا يُرِيدُونَ، وَلَا رِيَاسَةٌ دِينِيَّةٌ تَقْهَرُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ تَقَالِيدَ لَا يَعْقِلُونَهَا بَلْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الْحُرِّيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَفِي أَعْلَى ذُرْوَةٍ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ فَبِحُرِّيَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ لِفَهْمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَبِاسْتِقْلَالِ إِرَادَتِهِمْ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ الِاسْتِعْدَادِ لِلنُّهُوضِ بِمَا اعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهُ وَصَلَاحَهُ وَخَيْرِيَّتَهُ، وَلِإِقَامَتِهِ فِي قَوْمِهِمْ، وَنَشْرِهِ فِي غَيْرِهِمْ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، دُونَ تَحَكُّمِ رَئِيسٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ ; فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُوَّادِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِذْعَانِ لِلشَّرْعِ، وَمَا تَضَعُهُ الْأُمَّةُ لِنَفْسِهَا مِنَ النِّظَامِ بِالشُّورَى بَيْنَ مُمَثِّلِيهَا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ

وَالْعَقْدِ، حَتَّى فَرَضَ اللهُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَاوَرَتَهَا فِي أُمُورِهَا، وَقَالَ لَهُ رَبُّهُ فِي صِيغَةِ مُبَايَعَةِ نِسَائِهَا لَهُ: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) (٦٠: ١٢) وَبِهَا كَانَ يُبَايِعُ الرِّجَالُ كَالنِّسَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ.

وَأَمَّا كِنَانَةُ فَقَدْ كَانَ أَشْهَرَ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْكَرَمِ وَالنُّبْلِ، حَتَّى كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ إِلَيْهِ، وَيَنْقُلُونَ عَنْهُ حِكَمًا رَائِعَةً، وَكَفَى بِهَذَا اصْطِفَاءً عَلَيْهِمْ، وَامْتِيَازًا فِيهِمْ.

وَأَمَّا امْتِيَازُ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ مُتَوَاتَرٌ، وَأَهَمُّهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ كَانَ أَكْمَلَ فِيهِمْ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي أَطْرَافِ جَزِيرَتِهِمْ خَضَعُوا لِسِيَادَةِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ خُضُوعًا مَا، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْرَحَ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ أَنْسَابًا، وَأَشْرَفَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَعْلَاهُمْ آدَابًا، وَأَفْصَحَهُمْ أَلْسِنَةً، وَهُمُ الْمُمَهِّدُونَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ الْعَامَّةِ، بَعْدَ أَنْ جَمَعَ (قُصَيٌّ) جَمِيعَ قَبَائِلِهِمْ بِمَكَّةَ، وَاسْتَقَلُّوا بِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْحِجَابَةِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالرِّفَادَةِ - وَهِيَ إِسْعَافُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ -

<<  <  ج: ص:  >  >>