للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَرْضِ؟ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٣٠) فَهُوَ يَذْكُرُ جَعْلَ كُلِّ شَيْءٍ حَيًّا بِالْمَاءِ فِي إِثْرِ ذِكْرِ انْفِصَالِ الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَجْمُوعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ رَتْقًا ; أَيْ: مَادَّةً وَاحِدَةً مُتَّصِلًا بَعْضُ أَجْزَائِهَا بِبَعْضٍ عَلَى كَوْنِهِ ذَرَّاتٍ غَازِيَّةً كَالدُّخَانِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ التَّكْوِينَ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) (٤١: ١١) وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْفَتْقُ فِي الْأَجْرَامِ انْفَصَلَ جِرْمُ الْأَرْضِ عَنْ جِرْمِ الشَّمْسِ، وَصَارَتِ الْأَرْضُ قِطْعَةً مُسْتَقِلَّةً مَائِرَةً مُلْتَهِبَةً، وَكَانَتْ مَادَّةُ الْمَاءِ - وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ التَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ (عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ) بِالْأُكْسُجِينِ وَالْهِدْرُوجِينِ - تَتَبَخَّرُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ فَتُلَاقِي فِي الْجَوِّ بُرُودَةً تَجْعَلُهَا مَاءً فَيَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا وَصَفْنَا آنِفًا فَيَبْرُدُ مِنْ حَرَارَتِهَا، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى صَارَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَاءً، وَتَكَوَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَابِسَةُ فِيهِ وَخَرَجَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ وَكُلُّ شَيْءٍ حَيٍّ مِنَ الْمَاءِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ.

وَأَمَّا الْإِحْيَاءُ الْمُسْتَمِرُّ الْمُشَاهَدُ فِي كُلِّ بِقَاعِ الْأَرْضِ دَائِمًا فَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٢٢: ٥) وَذَلِكَ أَنَّنَا نَرَى كُلَّ أَرْضٍ لَا يَنْزِلُ فِيهَا الْمَطَرُ وَلَا تَجْرِي فِيهَا الْمِيَاهُ مِنَ الْأَرَاضِي الْمَمْطُورَةِ لَا فِي ظَاهِرِهَا وَلَا فِي بَاطِنِهَا خَالِيَةً مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَرْضٍ مُجَاوِرَةٍ لَهَا ثُمَّ يَعُودُ مِنْهَا، فَحَيَاةُ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا هِيَ بِالْمَاءِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ عِنْدَ تَكْوِينِ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ وَإِيجَادِ أَصُولِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِحْيَاءُ الْمُتَجَدِّدُ فِي أَشْخَاصِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَجُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي تَتَوَلَّدُ وَتُنَمَّى كُلَّ يَوْمٍ.

وَهَذِهِ الْمِيَاهُ الَّتِي يَتَغَذَّى بِهَا النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ عَلَى سَطْحِ هَذِهِ الْيَابِسَةِ كُلِّهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَرْضُ مِصْرَ، فَيُقَالُ: إِنْ حَيَاتَهَا بِمَاءِ النِّيلِ دُونَ الْمَطَرِ ; فَإِنَّ مِيَاهَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ الَّتِي تَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّهَا مِنَ الْمَطَرِ ; فَهُوَ يَتَخَلَّلُ الْأَرْضَ فَيَجْتَمِعُ فَيَنْدَفِعُ، وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَيْنَا وَأَرْشَدَنَا إِلَى آيَتِهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) (٣٩: ٢١) الْآيَةَ. فَالْبُحَيْرَاتُ الَّتِي هِيَ يَنَابِيعُ النِّيلِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ أَيَّامَ الْفَيَضَانِ هِيَ مِنَ الْمَطَرِ الَّذِي يَمُدُّ هَذِهِ الْيَنَابِيعَ وَيَمُدُّ النَّهْرَ نَفْسَهُ فِي مَجْرَاهُ مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، وَكَثْرَةُ الْفَيَضَانِ وَقِلَّتُهُ تَابِعَةٌ لِكَثْرَةِ الْمَطَرِ السَّنَوِيِّ وَقِلَّتِهِ هُنَاكَ.

هَذَا هُوَ الْمَاءُ فِي كَوْنِهِ مَطَرًا وَفِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ وَهُوَ آيَةٌ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُودِهِ وَتَكَوُّنِهِ ; فَإِنَّهُ يَجْرِي فِي ذَلِكَ عَلَى سُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ حَكِيمَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَةِ وَالرَّحْمَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ آيَةٌ فِي تَأْثِيرِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>