للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَعِنَايَتِهِمْ بِتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالتَّبَعِ لِعِنَايَتِهِمْ بِالدِّينِ، حَتَّى فَتَحُوا لَهُمْ وَتَلَامِيذُهُمْ نِصْفَ كُرَةِ الْأَرْضِ فِي زُهَاءِ نِصْفِ قَرْنٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَكَانُوا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ وَمَوْضِعَ الْحَيْرَةِ لِعُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحَرْبِ.

وَأَنَّى يَبْلُغُ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ فِي كِتَابِهِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ رُتْبَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) (٤٨: ٢٩) الْآيَاتِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي طُبِعَ وَشَبَّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ يَطْبُخُ الطَّعَامَ هُوَ وَزَوْجُهُ لَيْلًا لِامْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ تَلِدُ وَبَعْلُهَا حَاضِرٌ لَا يُسَاعِدُهُمَا إِذْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.

لَا جَرَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي الْمُصْحَفِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاهِدُ بِهِ الْكَافِرِينَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (٢٥: ٢٥) ثُمَّ كَانَ بِهِ يُرَبِّي الْمُؤْمِنِينَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَبِهِدَايَتِهِ وَالتَّأَسِّي بِمَبْلَغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّوُا الْأُمَمَ وَهَذَّبُوهَا، وَقَلَّمَا يَقْرَؤُهُ أَحَدٌ كَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ، إِلَّا وَيَهْتَدِي بِهِ كَمَا كَانُوا يَهْتَدُونَ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الِاسْتِعْدَادِ النَّفْسِيِّ وَاللُّغَوِيِّ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ لَا يَخْفَى.

وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ بِأُسْلُوبِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي غَيَّرَ مَا بِأَنْفُسِ الْعَرَبِ فَغَيَّرُوا بِهِ أُمَمَ الْعَجَمِ، فَكَانُوا كُلُّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (٣: ١١٠) .

وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ وَإِدَارَتِهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ بِمُبَلِّغِهِ وَمُنَفِّذِهِ الْأَوَّلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَنْ يَعُودَ لِلْمُسْلِمِينَ مَجْدُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا إِذَا عَادُوا إِلَى هِدَايَتِهِ، وَتَجْدِيدِ ثَوْرَتِهِ، وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مَنْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ زَاعِمِينَ اسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ وَبِسُّنَةِ نَبِيِّهِ، بِكُتُبِ مَشَايِخِهِمُ الْجَافَّةِ الْخَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُحْيِي الْإِيمَانَ وَيُنْهِضُ الْهِمَمَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.

(فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهُ نَوْعَانِ)

بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ وَإِحْدَاثَهُ تِلْكَ الثَّوْرَةِ الْكُبْرَى فِيهِمْ قَدْ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا جَذْبُهُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَثَانِيهِمَا تَزْكِيَتُهُمْ وَتَغْيِيرُ كُلِّ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلٍ وَفَسَادٍ إِلَى ضِدِّهِ، حَتَّى أَعْقَبَ مَا أَعْقَبَ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ. وَهَاكَ التَّفْصِيلَ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ لِذَلِكَ.

بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهَا لِمَا أَرَادَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>