للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَكْعَةً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَمَا قَبْلَهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَكَانَ هُوَ يُطِيلُ فِيهِنَّ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مُرَفِّهًا وَمُسَلِّيًا (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (٢٠: ١ و٢) .

فَتَرْبِيَةُ الصَّحَابَةِ الَّتِي غَيَّرَتْ كُلَّ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَزَكَّتْهَا تِلْكَ التَّزْكِيَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا وَأَحْدَثَتْ أَعْظَمَ ثَوْرَةٍ رُوحِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِي التَّارِيخِ

إِنَّمَا كَانَتْ بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ اللَّيْلَةَ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ يُكَرِّرُهَا مُتَدَبِّرًا لَهَا، وَكَانُوا يَقْرَءُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ وَمُضْطَجِعِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (٣: ١٩١) وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللهِ تِلَاوَةُ كِتَابِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ وَالْفُنُونِ لَمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فِي قَلْبِ الطِّبَاعِ، وَتَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ، بَلْ لَكَانَتْ تِلَاوَتُهُ تُمَلُّ فَتُتْرَكُ، فَأُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ آنِفًا مَنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ اللُّغَوِيِّ، وَتَأْثِيرِهِ الرُّوحِيِّ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِنْهُ وَلِيُحَاوِلْ كِتَابَتَهَا نَفْسَهَا أَوْ مِثْلَهَا بِأُسْلُوبِ تِلْكَ السُّورَةِ وَنَظْمِهَا أَوْ أُسْلُوبِ سُورَةٍ أُخْرَى، كَالسُّوَرِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ فِيهَا الْمَوْضُوعُ الْوَاحِدُ بِالْإِجْمَالِ الْمُوجَزِ تَارَةً وَبِبَعْضِ التَّفْصِيلِ تَارَةً وَبِالْإِطْنَابِ فِيهِ أُخْرَى، - كَالِاعْتِبَارِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي سُورِ الْمُفَصَّلِ (كَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ) وَفِيمَا فَوْقَهَا (كَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ) وَفِيمَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا (كَالْأَعْرَافِ وَهُودٍ) - ثُمَّ لِيَنْظُرْ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ عَجْزُهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.

وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ تَكْرَارَ الدَّعَوَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ الْجَمَاعَاتِ وَتَدَعُّهُمْ إِلَى الِانْهِمَاكِ وَالتَّفَانِي فِيهَا دَعًّا، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ يَعْلَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ فَوْقَ مَا يَعْلَمُهُ حُكَمَاءُ عَصْرِنَا وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ إِلَّا مَا لَهُ أَكْبَرُ الشَّأْنِ فِي انْقِلَابِ الْأَفْكَارِ، وَتَحْوِيلِ مَا فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الِانْقِلَابِ الْإِصْلَاحِيِّ بِدُونِهِ كَمَا تَعْلَمُ مِنَ التَّفْصِيلِ الْآتِي.

(مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ، فِي تَرْقِيَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ) .

إِنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ مِنْ إِصْلَاحِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَأَقْوَامِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَتَحْقِيقِ أُخُوَّتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَوَحْدَتِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مَا يَكْفِي بَيَانُهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا قَلِيلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا تَحْصُلُ

الْغَايَةُ إِلَّا بِتَكْرَارٍ كَثِيرٍ لِأَجَلِ أَنْ يَجْتَثَّ مِنْ أَعْمَاقِ الْأَنْفُسِ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ آثَارِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَيَغْرِسُ فِي مَكَانِهَا أَضْدَادَهَا، وَيَتَعَاهَدُ هَذَا الْغَرْسَ بِمَا يُنَمِّيهِ حَتَّى يُؤْتِيَ أُكُلَهُ وَيَيْنَعَ ثَمَرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ

<<  <  ج: ص:  >  >>