للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا بُرْهَانًا، فَهَدْمُ مَعَاقِلِ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ وَحُصُونِهَا الْمُشَيَّدَةِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْقُلُوبِ مَا كَانَ لِيَتِمَّ بِإِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ أَوْ عِدَّةِ بَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ فِيهِ مِنْ دَحْضِ الشُّبَهَاتِ وَتَفْصِيلِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْخَطَابِيَّةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ ; لِذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ الْمَسَائِلِ تَكْرَارًا فِي الْقُرْآنِ مَسْأَلَةَ تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ مِلْكًا وَعَبِيدًا لَهُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا لِأَحَدٍ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ إِلَّا فِيمَا سَخَّرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.

وَأَمَّا تَكْرَارُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَيْسَ سَبَبُهُ كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى، بَلْ سَبَبُهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِ الْعِبَادَةِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ وَابْتِغَاءِ شَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ، فَشَرُّ الشِّرْكِ وَأَعْرَقُهُ فِي الْكُفْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَقَدْ ذُكِرَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً،

بَلْ زُهَاءَ سَبْعِينَ بَعْدَ سَبْعِينَ مَرَّةً ; لِأَنَّهُ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَحْنُهَا، بَلْ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ كُلُّهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَوَضْعِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ.

بَعْضُ آيَاتِ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِدُعَائِهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا نَهْيٌ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهَا حُجَجٌ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهَا أَمْثَالٌ، تُصَوَّرُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالصُّوَرِ اللَّائِقَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَمِنْهَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ دُعَاءَ غَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُسْتَجَابُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ وَخِيَارَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ يَدْعُونَهُ هُوَ وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَلْخِيصُهُ.

وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى تُغَذِّي التَّوْحِيدَ، وَتَصْعَدُ بِأَهْلِهِ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي السُّمُوِّ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّوَلُّهِ فِي حُبِّهِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ، وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مَمْزُوجَةً بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، حَتَّى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِرْثِ وَالْأَمْوَالِ. وَبِحِكَمِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ، وَسُنَنِهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَوَضْعِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُنَاسِبِ لَهُ مِنْ رَحْمَةٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَحِلْمٍ وَعَفْوٍ وَمَغْفِرَةٍ وَحُبٍّ وَرِضًا وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِي فَضْلِهِ إِلَخْ وَنَاهِيكَ بِمَا سَرَدَ مِنْهَا سَرْدًا لِجَذْبِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ إِلَى كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَفَنَائِهَا فِيهِ كَمَا تَرَاهُ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَتَأَمَّلْهَا، وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>