للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النَّفْسَ أَوْ يُدَسِّيهَا وَيُدَنِّسُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُثْبِتُهُ مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ، وَحِكْمَةَ الدَّيَّانِ وَهُوَ مِمَّا أَصْلَحَهُ الْقُرْآنُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَدْيَانِ.

فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنْ إِنْكَارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَمِنْ فَسَادِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْمِلَلِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَلِمْتَ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ تَذَكُّرَهَا هُوَ الَّذِي يُقَوِّي الْوَازِعَ النَّفْسِيَّ الَّذِي يَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ - عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ فِعْلَهُ الْعَاجِلَ فِي شَعْبٍ كَبِيرٍ إِلَّا بِتَكْرَارِهِ فِي الْقُرْآنِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ مِنَ الْأَذْهَانِ. تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، لَعَلَّهَا تَبْلُغُ الْمِئَاتِ، وَمِنْ إِعْجَازِهِ أَنَّهَا لَا تُمَلُّ وَلَا تُسْأَمُ.

الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، مِنْ لَوَازِمَ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ الْمُتَّصِفِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ الْبَعْثِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَظْهَرِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا

وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (٢٣: ١١٥) وَقَوْلُهُ: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (٧٥: ٣٦ - ٤٠) فَكُفْرُ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ يَسْتَلْزِمُ كُفْرَهُ بِحِكْمَةِ رَبِّهِ وَعَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، وَكُفْرَهُ بِنِعْمَتِهِ بِخَلْقِهِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى أَهْلِ عِلَلِهِ (الْأَرْضِ) حَيْثُ سَخَّرَهَا وَكُلَّ مَا فِيهَا لِمَنَافِعِهِ، وَعَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَعَدَهُ بِمَصِيرِهِ إِلَيْهِ وَجِهَادٍ بِمَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى وَالْعَقْلِ، وَجَهْلِهِ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مُسْتَعِدًّا لِمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَنِهَايَةٌ مِنَ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ - وَمِنْ لَوَازِمَ هَذَا الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ كُلِّهِ، احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ خُلِقَ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْأَرْضِ مَوْقُوتٌ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الْمُنَغَّصِ بِالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْآثَامِ، وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى لَا يُجْزَى كُلُّ ظَالِمٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِظُلْمِهِ، وَكُلُّ عَادِلٍ بِعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِذْ كَانَ هَذَا الْجَزَاءُ غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي الدُّنْيَا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ هُوَ الْمَظْهَرَ الْأَكْبَرَ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ.

وَمِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ يَكُونُونَ أَكْمَلَ أَرْوَاحًا وَأَجْسَادًا مِمَّا كَانُوا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ وَالْأَرْوَاحِ السَّافِلَةِ يَكُونُونَ أَنْقَصَ وَأَخْبَثَ مِمَّا كَانُوا بِتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُعْلَمُ مِمَّا ثَبَتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>