للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ مِرَارًا (مِنْهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَحَادِيثِ غَيْرُ الشَّفَاعَةِ الْوَثَنِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ) . وَكَرَّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دُونَ تَكْرَارِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ لَهَا فَالْإِقْنَاعُ بِهَا أَسْهَلُ.

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، فَهَلْ كَانَ هَذَا مِمَّا اسْتَمَدَّهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَادُوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَخِلُوا بِهِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ؟ أَمْ هُوَ نَابِعٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَنْبُعُ مِنْهَا أَعْلَى مِنْ وَحْيِ اللهِ لِغَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ دَعْوَى أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ؟ كَلَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُ:

الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ:

وَمِمَّا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ كَالْكُفْرِ بِهِمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَوَظِيفَتُهُمْ فِي إِرْشَادِ الْمُكَلَّفِينَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ وَشَرْعِهِ وَاحِدَةٌ.

قَالَ تَعَالَى فِي خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢: ٢٨٥) وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْكُفْرُ حَقُّ الْكَفْرِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَفْرِقَةٍ هُوَ الْإِيمَانُ حَقُّ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي الْآيَاتِ (٤: ١٥٠ - ١٥٢) .

وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَاحِدٌ فِي مَقَاصِدِهِ مِنْ هِدَايَةِ الْبَشَرِ وَإِصْلَاحِهِمْ، وَإِعْدَادِهِمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُوَرُ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَقْوَامِ وَمُقْتَضَيَاتِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. فَالْإِيمَانُ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى فِي الْإِيمَانِ، وَجَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْكُفْرِ.

وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعَادِلَةِ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَبِيهِمْ وَجَدِّهِمْ عَلَى مَا يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ عُيُوبٍ وَمُنْكَرَاتٍ وَفَوَاحِشَ يَرْمُونَهُمْ بِهَا.

وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ رُسُلًا هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِجْمَالًا وَبِمَا قَصَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا، فَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ بِهَذَا نَوْعَ الْإِنْسَانِ، وَمَهَّدَ بِهِ السَّبِيلَ لِلْأُلْفَةِ وَالْأُخُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي نُبَيِّنُهَا بَعْدُ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بِتَخْصِيصِ

<<  <  ج: ص:  >  >>