للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِهَذِهِ الْغَرَائِبِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا وَسِيلَةً لِمَعَايِشِهِمُ الدَّنِيئَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيهَا لَتَنَافَسَ الْمُلُوكُ وَكِبَارُ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي صُحْبَتِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِمْ.

الْمُعْجِزَاتُ قِسْمَانِ: تَكْوِينِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ تُشْبِهُ الْكَسْبِيَّةَ:

الْمُعْجِزَاتُ كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَسْبِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهَا بِحَسَبِ مَظْهَرِهَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا فَهُوَ يُشْبِهُ الْأَحْكَامَ الِاسْتِثْنَائِيَّةَ فِي قَوَانِينِ الْحُكُومَاتِ أَوْ مَا يَكُونُ بِإِرَادَةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ الْمُلُوكِ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ.

((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) وَقِسْمٌ يَقَعُ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ رُوحَانِيَّةٍ لَا مَادِّيَّةٍ.

أَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لَهُ، كَالْآيَاتِ التِّسْعِ بِمِصْرَ فَهِيَ مِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا بِكَسْبٍ لَهُ حَقِيقِيٍّ وَلَا صُورِيٍّ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْأُخْرَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَثْنَاءِ خُرُوجِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُدَّةَ التِّيهِ،

بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِدُونِ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَا يَأْمُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْبَحْرِ أَوِ الْحَجَرِ بِعَصَاهُ الَّتِي هِيَ آيَتُهُ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَرِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ كَهَذِهِ الْآيَاتِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَا هِيَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِالرِّيَاضَةِ الرُّوحِيَّةِ أَوْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا.

وَأَمَّا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - عَلَى كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ الْكَسْبِيَّةِ وَعَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ - قَدْ يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّهَا كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا حَدَثَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ بِنَفْخَةٍ مِنْ رُوحِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا - وَهُوَ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ سَبَبَ عُلُوقِهَا بِهِ بِفِعْلِهَا فِي الرَّحِمِ مَا يَفْعَلُ تَلْقِيحُ الرَّجُلِ بِقُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا غَرْوَ أَنْ كَانَتْ مَظَاهِرُ آيَاتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَظَاهِرِ سَائِرِ الرُّوحِيِّينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَالْكَشْفِ وَشِفَاءِ بَعْضِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّوحَانِيِّينَ مِنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِعَمَلٍ كَسْبِيٍّ مِنْهُ، بَلْ مِنْ أَصْلِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (٢١: ٩١) (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (٢٣: ٥٠) فَآيَتُهُمَا هِيَ الْحَمْلُ بِهِ وَخَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْإِلَهِيِّ لَا بِسَبَبِ التَّلْقِيحِ الْبَشَرِيِّ، وَلَا بِمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ وُجُودِ مَادَّتَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي رَحِمِهَا.

وَأَعْظَمُ آيَاتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ التَّنْزِيلُ وَلَمْ يَنْقُلْهَا مُؤَلِّفُو الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ (وَرُوِيَ أَنَّهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>