للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مُتَزَاوِرَةً عَنْهُمْ، فَتُلَطِّفُ هَوَاءَهُ مِنْ حَيْثُ لَا تُصِيبُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْبَرُ الْغَرَابَةِ فِي نَوْمِهِمْ طُولَ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِيهِ وَكَانَتْ طَوِيلَةً جِدًّا حَتَّى عَلَى نَقْلِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ) (١٨: ٢٥) الْآيَةَ - حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ السِّيَاقِ فَقَدْ يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) (١٨: ٢٦) وَاللهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ خَفِيَ سِرُّ آيَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِمُحَالٍ. وَقَدْ نَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ بِمَرَضِ النَّوْمِ عِدَّةَ أَشْهُرٍ.

وَلَكِنْ مَا جَرَى لِلْفَقِيرِ الْهِنْدِيِّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَقَعَ بِطَرِيقَةٍ كَسَبِيَّةٍ مِنْ طَرَائِقَ رِيَاضَةِ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبْدَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِمَا تَبْقَى بِهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً فِي أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، مَعَ انْتِفَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الِاعْتِيَادِيَّةِ مِنْ دَوْرَةِ الدَّمِ وَالنَّفَسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِاتِّخَاذِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ السُّنَنَ الْعَامَّةَ قَاعِدَةً عَامَّةً وَلَا سِيَّمَا فِعْلِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، وَوَاضِعُ نِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْخَوَارِقِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِسُنَنِهِ بِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَتِهِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَحَاطَ بِحِكَمِهِ أَوْ بِسُنَنِهِ عِلْمًا؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ أَلَّا نُصَدِّقَ بِوُقُوعِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمَادَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ خَوَاصِّ

الْكَهْرَبَاءِ وَغَيْرِهَا مَا لَوْ قِيلَ لِعُقَلَاءِ النَّاسِ وَحُكَمَائِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ إِنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، لَحَكَمُوا عَلَى مُدَّعِي إِمْكَانِهِ بِالْجُنُونِ لَا بِتَصْدِيقِ الْخُرَافَاتِ، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ:

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَسْرَارَ هَذَا الْكَوْنِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا خَالِقُهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقَائِعُ غَرِيبَةٌ تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ نِظَامِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، بِحَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لِلْجُمْهُورِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَإِنَّ مَا يَتَنَاقَلُهُ الْجُمْهُورُ الْمُولَعُ بِالْغَرَائِبِ مِنْهَا - مِنْهُ مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهُ مَا لَهُ أَسْبَابٌ عِلْمِيَّةٌ أَوْ صِنَاعِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ الْوَهْمُ كَشِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، أَوِ انْخِدَاعِ الْبَصَرِ بِالتَّخَيُّيِلِ الَّذِي يَحْذَقُهُ الْمُشَعْوِذُونَ، وَمِنْهُ مَا فَعَلَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (٢٠: ٦٦) وَمِنْهُ انْخِدَاعُ السَّمْعِ كَالَّذِي يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اسْتِخْدَامَ الْجِنِّ، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ لَيْلًا بِأَصْوَاتٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ أَصْوَاتِهِمُ الْمُعْتَادَةِ فَيَظُنُّ مُصَدِّقُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ صَوْتُ الْجِنِّيِّ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُونَ نَهَارًا مِنْ بُطُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكُوا شِفَاهَهُمْ، فَلَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَلَا مِنْ نَقْلِهِمْ - وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى كَذِبِ الْمُنْتَحِلِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>