للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (١٧: ٣٩) وَقَالَ لِنِسَائِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (٣٣: ٣٤) .

وَقَدْ آتَى اللهُ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْحِكْمَةَ، وَلَكِنْ أَضَاعَهَا أَقْوَامُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِالتَّقَالِيدِ وَالرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَنَسَخَهَا بُولَسْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٤: ٥٤) فَالْكِتَابُ أَعْلَى مَا يُؤْتِيهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَيَلِيهِ الْحِكْمَةُ وَيَلِيهَا الْمُلْكُ. وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (٢: ٢٥١) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٥: ١١٠) وَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (٣١: ١٢) وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَصَايَاهُ لِابْنِهِ بِالْفَضَائِلِ وَمَنَافِعِهَا وَنَهْيَهُ عَنِ الرَّذَائِلِ مُعَلَّلَةً بِمَضَارِّهَا. فَالْحِكْمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، هِيَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ كَعِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَسْرَارِ الْخَلْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (١٧: ٣٩) وَلَوْلَا اقْتِرَانُ تِلْكَ الْوَصَايَا بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا وَمَنَافِعِهَا لَمَا سُمِّيَتْ حِكْمَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى

فِيهَا الْمُبَذِّرِينَ لِلْمَالِ ((إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)) لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ نِظَامَ الْمَعِيشَةِ بِإِسْرَافِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ بِعَدَمِ حِفْظِهَا وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا بِالِاعْتِدَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (١٧: ٢٧) ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (١٧: ٢٩) فَعَلَّلَ الْإِسْرَافَ فِي الْإِنْفَاقِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فَاعِلِهِ أَنْ يَكُونَ مَلُومًا مِنَ النَّاسِ وَمَحْسُورًا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْسُورُ مَنْ حُسِرَ عَنْهُ سَتْرُهُ فَانْكَشَفَ مِنْهُ الْمُغَطَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنِ انْحَسَرَتْ قُوَّتُهُ وَانْكَشَفَتْ عَنْ عَجْزِهِ، وَالْمَحْسُورُ الْمَغْمُومُ أَيْضًا. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصِحُّ فِي وَصْفِ الْمُسْرِفِ فِي النَّفَقَةِ، يُوقِعُهُ إِسْرَافُهُ فِي الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ إِلَخْ. وَحَسِيرُ الْبَصَرِ كَلَيْلُهُ وَقَصِيرُهُ.

وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ لِلْحَقَائِقِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ حَكِيمًا.

(٤) الْإِسْلَامُ دِينُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ:

قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (٤: ١٧٤) وَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٢٣: ١١٧) قَيَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى الشِّرْكِ بِكَوْنِهِ لَا بُرْهَانَ لِصَاحِبِهِ يَحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأُمَمَ مَعَ رُسُلِهِمْ وَوَرَثَتِهِمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبُهُمْ بِحَضْرَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>