للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ مُرْهَقَةً بِحُكُومَاتٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ اسْتَعْبَدَتْهَا فِي أُمُورِ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مُنْقِذٍ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ يَقْطَعُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ؛ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ بَعْدَهُ.

ثُمَّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زِغْتُ فَقَوِّمُونِي. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ عِوَجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ عِوَجَ عُمَرَ بِسَيْفِهِ. وَكَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَيَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةٌ أَوْ قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الثَّالِثُ عُثْمَانُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُ الْخَلِيفَةِ الرَّابِعِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ، وَلَا أَذْكُرُ لَهُ كَلِمَةً مُخْتَصَرَةً مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمِنْبَرِ.

وَإِذَا أَوْجَبَ اللهُ الْمُشَاوَرَةَ عَلَى رَسُولِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَدْنَى مِنْ حُكْمِ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالشُّورَى، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

وَلَكِنَّ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ زَاغُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَشَايَعَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ الْمُنَافِقُونَ، وَخُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِحُكُومَةِ دِينِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّ الْإِفْرِنْجِ فِي حَرْبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ أَنْ كَانَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَفِي فِي حُكْمِهِ أَثَرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الَّذِي قَالَ لِأَحَدِ رِجَالِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ عِنْدَهُ وَقَدِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى رَجُلٍ غَشَّهُ: ((مَا عَسَى أَنْ أَصْنَعَ لَكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ قَاضٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَالْحَقُّ الشَّرْعِيُّ مَبْسُوطٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ مُمْتَثِلَةٌ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ الشَّرْعِ وَشِحْنَتُهُ، فَالْحَقُّ يَقْضِي لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) وَمَعْنَى عِبَارَةِ السُّلْطَانِ: أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا

مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ - كَالشِّحْنَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ - وَأَنَّ الْقُضَاةَ مُسْتَقِلُّونَ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْمُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدِ اقْتَبَسَ الصَّلِيبِيُّونَ مِنْهُ طَرِيقَةَ حُكْمِهِ، ثُمَّ دَرَسُوا تَارِيخَ الْإِسْلَامِ فَعَرَفُوا مِنْهُ مَا جَهِلَهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى أَسَّسُوا حُكْمَ دُوَلِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَصَارُوا يَدَّعُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعِيبُونَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ بِاسْتِبْدَادِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ سَبَبَ هَذَا الِاسْتِبْدَادِ وَالْحُكْمِ الشَّخْصِيِّ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُصَدِّقُونَهُمْ، وَيَرَى الْمُشْتَغِلُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>