للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَمْرُ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَغَيْرِهِمَا، هُمُ الَّذِينَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَشِيرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَالسِّرِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ. وَكَانَ يَسْتَشِيرُ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَهُمْ بِهِ عَلَاقَةٌ عَامَّةٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ، كَاسْتِشَارَتِهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: الْحِصَارِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ

الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ. وَكَانَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ بَعْضِ كِبَارِ الْأُمَّةِ الْأَوَّلَ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ الثَّانِيَ، فَنَفَّذَ رَأْيَ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَشَارَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَعَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ.

وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (٤: ٥٩) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ النِّيَابِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ.

وَمِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْقَضَائِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ بِهَا جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْخَاصَّتَيْنِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ وَالدَّوْلَةِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، كَقَوْلِهِ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩: ١) وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَالْحَرْبِ وَالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٩: ٩) وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ كَالْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا (وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ) .

وَقَدْ صَرَّحَ كِبَارُ النُّظَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِأَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ يَتَوَلَّاهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءَ وَالْأَئِمَّةَ، وَيَعْزِلُونَهُمْ، إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ عَزْلَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْخِلَافَةِ: هِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ. وَقَالَ فِي الْقَيْدِ الْأَخِيرِ (الَّذِي زَادَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ) هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ إِذَا عَزَلُوا الْإِمَامَ لِفِسْقِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ الْقَيْدَ الْأَخِيرَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ الْأُمَّةِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ رِئَاسَتَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ أَوْ عَلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ. اهـ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِنَا (الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى) .

فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ إِصْلَاحٍ سِيَاسِيٍّ لِلْبَشَرِ، قَرَّرَهَا

الْقُرْآنُ فِي عَصْرٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>