للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى خِيفَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى هَذَا الْعُمْرَانِ الْعَظِيمِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ، بِمَا اسْتَحْدَثَهُ الْعِلْمُ الْوَاسِعُ مِنْ وَسَائِلِ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ، كَالْغَازَاتِ السَّامَّةِ وَمَوَادِّ الْهَدْمِ وَالتَّحْرِيقِ تَقْذِفُهَا الطَّيَّارَاتُ الْمُحَلِّقَةُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، عَلَى الْمَدَائِنِ الْمُكْتَظَّةِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَتَقْتُلُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ سَاعَاتٍ مَعْدُودَةٍ.

وَقَدْ حَارَتِ الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَتَرَى دَهَاقِينَ السِّيَاسَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَفَاوَضُونَ مَعَ أَقْرَانِهِمْ لِوَضْعِ نِظَامٍ لِتَقْرِيرِ السَّلَامِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ الْخِصَامِ، بِمُعَاهَدَاتٍ يَعْقِدُونَهَا، وَأَيْمَانٍ يَتَقَاسَمُونَهَا، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ خَائِبِينَ، أَوْ يَنْقُضُونَ مَا أَبْرَمُوا مُتَأَوِّلِينَ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِهِ مُخَادِعِينَ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ سَبَبَ هَذِهِ الْخَيْبَةِ بِمَا وَجَدْنَا مِصْدَاقَهُ فِي هَذِهِ الدُّوَلِ بِأَظْهَرِ مِمَّا كَانَ فِي عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ نَزَلَ هَذَا الْبَيَانُ فِي عَهْدِهِمْ، كَأَنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) (١٦: ٩٢) وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا فِي نَقْضِ عُهُودِكُمْ وَالْعَوْدِ إِلَى تَجْدِيدِهَا كَالْمَرْأَةِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ إِبْرَامِهِ نَقْضَ أَنْكَاثٍ (وَهُوَ جَمْعُ نِكْثٍ بِالْكَسْرِ: مَا نُقِضَ لِيُغْزَلَ مَرَّةً أُخْرَى) حَالَ كَوْنِكُمْ تَتَّخِذُونَ عُهُودَكُمْ دَخْلًا بَيْنَكُمْ

(وَالدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَسَادُ وَالْغِشُّ الْخَفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ) لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى رِجَالًا، وَأَكْثَرَ رِبْحًا وَمَالًا، وَأَقْوَى أَسِنَّةً وَنِصَالًا.

وَالْمُرَادُ: أَنَّ مُعَاهَدَاتِ الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأُمَمِ، يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْإِصْلَاحُ وَالْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ، فَتُبْنَى عَلَى الْإِخْلَاصِ دُونَ الدَّخَلِ وَالدَّغَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَا ذُكِرَ.

وَلَوْ طَلَبُوا الْمَخْرَجَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَوَجَدُوهُمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالسَّلَامِ، وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ.

(أَهَمُّ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسَّلَامِ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ) .

قَدِ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ ٢٨ قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْحَرْبِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فِي الْقِتَالِ وَالصُّلْحِ وَالْمُعَاهَدَاتِ، أَجْمَلْنَاهَا فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (١٢٥ - ١٣٠ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) وَأَحَلْنَا فِي تَفْصِيلِهَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهَا، ثُمَّ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ التَّوْبَةِ ١٣ قَاعِدَةً حَرْبِيَّةً أَكْثَرُهَا فِي الْمُعَاهَدَاتِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا وَشَرْطِ نَبْذِهَا، وَفِي الْهُدْنَةِ وَتَأْمِينِ الْحَرْبِيِّ لِلدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - و٢٠ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالْجِزْيَةِ سَرَدْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ أَتَيْنَا بِبِضْعِ قَوَاعِدَ مِنْهُمَا وَمَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السُّورِ فِيمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>