إِلَّا الْخَيْرَ الْمَحْضَ ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ وَحُسْنَ النِّيَّةِ أَسَاسُ طَرِيقِهِمْ، وَلَكِنْ مَاذَا كَانَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ؟ كَانَ مِنْهُ أَنَّ مَقَاصِدَ الصُّوفِيَّةِ الْحَسَنَةَ قَدِ انْقَلَبَتْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ رُسُومِهِمُ الظَّاهِرَةِ إِلَّا أَصْوَاتٌ وَحَرَكَاتٌ يُسَمُّونَهَا ذِكْرًا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا كُلُّ صُوفِيٍّ، وَإِلَّا تَعْظِيمُ قُبُورِ الْمَشَايِخِ تَعْظِيمًا دِينِيًّا مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ لَهُمْ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً تَعْلُو الْأَسْبَابَ الَّتِي ارْتَبَطَتْ بِهَا الْمُسَبَّبَاتُ بِحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى، بِهَا يُدِيرُونَ الْكَوْنَ وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهِ كَمَا يَشَاءُونَ، وَأَنَّهُمْ قَدْ تَكَلَّفُوا بِقَضَاءِ حَاجِّ مُرِيدِيهِمْ وَالْمُسْتَغِيثِينَ بِهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هُوَ عَيْنُ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ.
وَزَادُوا عَلَى هَذَا شَيْئًا آخَرَ هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ قُبْحًا وَهَدْمًا لِلدِّينِ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ شَيْءٌ وَالْحَقِيقَةَ شَيْءٌ آخَرُ، فَإِذَا اقْتَرَفَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ قَالُوا فِي الْمُجْرِمِ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُنْكِرِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ. كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ لِلنَّاسِ دِينَيْنِ، وَأَنَّهُ يُحَاسِبُهُمْ
بِوَجْهَيْنِ، وَيُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَتَيْنِ - حَاشَ لِلَّهِ - نَعَمْ ; جَاءَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ ذِكْرُ الْحَقِيقَةِ مَعَ الشَّرِيعَةِ، وَمُرَادُهُمْ بِهِ أَنَّ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يَعْلُو أَفْهَامَ الْعَامَّةِ بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الْحِكَمِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فَحَسْبُ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا الْوُقُوفُ عِنْدَ ظَاهِرِهِ، وَمَنْ آتَاهُ اللهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ فَفَهِمَ مِنْهُ شَيْئًا أَعْلَى مِمَّا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُ الْعَامَّةِ فَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ لِلتَّزَيُّدِ مِنَ الْعِلْمِ بِاللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ ; فَهَذَا مَا يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ لَا سِوَاهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ أَوْ يُنَافِيهَا، وَمَنْ آتَاهُ اللهُ نَصِيبًا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ سِوَاهُ (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (٣٥: ٢٨) .
هَكَذَا كَانَ الْقَوْمُ، الصُّوفِيَّةُ الْحَقِيقِيُّونَ فِي طَرَفٍ، وَالْفُقَهَاءُ فِي طَرَفٍ آخَرَ، وَبَعْدَمَا فَسَدَ التَّصَوُّفُ وَانْقَلَبَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مُنَاقِضَةٍ لَهَا، وَضَعُفَ الْفِقْهُ فَصَارَ مُنَاقَشَةً لَفْظِيَّةً فِي عِبَارَاتِ كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ، اتَّفَقَ الْمُتَفَقِّهَةُ الْجَامِدُونَ وَالْمُتَصَوِّفَةُ الْجَاهِلُونَ، وَأَذْعَنَ أُولَئِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَاعْتَرَفُوا لَهُمْ بِالسِّرِّ وَالْكَرَامَةِ، وَسَلَّمُوا لَهُمْ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ، فَصِرْتَ تَرَى الْعَالِمَ قَرَأَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْفِقْهَ يَأْخُذُ الْعَهْدَ مِنْ رَجُلٍ جَاهِلٍ أُمِّيٍّ وَيَرَى أَنَّهُ يُوَصِّلُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى. فَإِنْ كَانَ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَمَا فَهِمَ الْأَئِمَّةُ وَاسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْهُمَا كُلُّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ فَلِمَاذَا شَرَعَ اللهُ هَذَا الدِّينَ، وَالنَّاسُ أَغْنِيَاءُ عَنْهُ بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْأُمِّيِّينَ وَأَشْبَاهِ الْأُمِّيِّينَ؟ وَهَلِ الْقُصُورُ إِذًا فِيمَا نَزَّلَ اللهُ تَعَالَى أَمْ فِي بَيَانِ الرَّسُولِ لَهُ وَبَيَانِ الْأَئِمَّةِ لِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ؟ حَاشَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِهِ غَيْرَ مَا نَزَّلَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُ الصُّوفِيَّةِ الصَّادِقِينَ فَهْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ التَّحَقُّقِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute