للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِمَعَارِفِهِمَا، وَالتَّخَلُّقِ وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِمَا، وَأَخْذِ النُّفُوسِ بِالْعَمَلِ بِهِمَا، مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَا جُمُودٍ عَلَى الظَّوَاهِرِ.

وَلَقَدْ تَشَوَّهَتْ سِيرَةُ مُدَّعِي التَّصَوُّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَصَارَتْ رُسُومُهُمْ أَشْبَهَ بِالْمَعَاصِي وَالْأَهْوَاءِ مِنْ رُسُومِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا التَّصَوُّفَ مِنْ قَبْلِهُمْ، وَأَظْهَرُهَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الِاحْتِفَالَاتُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا ((الْمَوَالِدَ)) وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ تَبِعَ الْفُقَهَاءَ فِي

اسْتِحْسَانِهَا الْأَغْنِيَاءُ، فَصَارُوا يَبْذُلُونَ فِيهَا الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ طُلِبَ مِنْهُمْ بَعْضُ هَذَا الْمَالِ لِنَشْرِ عِلْمٍ أَوْ إِزَالَةِ مُنْكَرٍ أَوْ إِعَانَةِ مَنْكُوبٍ لَضَنُّوا بِهِ وَبَخِلُوا، وَلَا يَرَوْنَ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ مُنَافِيًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَأَنَّ كَرَامَةَ الشَّيْخِ الَّذِي يَحْتَفِلُونَ بِمَوْلِدِهِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتُحِلُّ لِلنَّاسِ التَّعَاوُنَ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ.

فَالْمَوَالِدُ أَسْوَاقُ الْفُسُوقِ، فِيهَا خِيَامٌ لِلْعَوَاهِرِ، وَحَانَاتٌ لِلْخُمُورِ، وَمَرَاقِصٌ يَجْتَمِعُ فِيهَا الرِّجَالُ لِمُشَاهَدَةِ الرَّاقِصَاتِ الْمُتَهَتِّكَاتِ، الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ، وَمَوَاضِعُ أُخْرَى لِضُرُوبٍ مِنَ الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يُقْصَدُ بِهَا إِضْحَاكُ النَّاسِ. وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَوَالِدِ يَكُونُ فِي الْمَقَابِرِ، وَيُرَى كِبَارُ مَشَايِخِ الْأَزْهَرِ يَتَخَطَّوْنَ هَذَا كُلَّهُ لِحُضُورِ مَوَائِدِ الْأَغْنِيَاءِ فِي السُّرَادِقَاتِ وَالْقِبَابِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَضْرِبُونَهَا وَيَنْصِبُونَ فِيهَا الْمَوَائِدَ الْمَرْفُوعَةَ، وَيُوقِدُونَ الشُّمُوعَ الْكَثِيرَةَ، احْتِفَالًا بِاسْمِ صَاحِبِ الْمَوْلِدِ، وَيُهَنِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذَا الْعَمَلِ الشَّرِيفِ فِي عُرْفِهِمْ.

وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ شَرْحِ مَفَاسِدِ الْمَوَالِدِ هُنَا أَنَّ بَعْضَ كِبَارِ الشُّيُوخِ فِي الْأَزْهَرِ دَعَوْهُ مَرَّةً لِلْعَشَاءِ عِنْدَ أَحَدِ الْمُحْتَفِلِينَ، فَأَبَى فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّنِي لَا أُحِبُّ أَنْ أُكَثِّرَ سَوَادَ الْفَاسِقِينَ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَالِدَ كُلَّهَا مُنْكَرَاتٌ، وَوَصَفَ مَا يَمُرُّ بِهِ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَوْضِعِ الطَّعَامِ. ثُمَّ قَالَ لِشَيْخٍ صَدِيقٍ لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ: كَمْ يُنْفِقُ صَاحِبُكَ فِي احْتِفَالِهِ بِالْمَوْلِدِ؟ قَالَ: أَرْبَعَمِائَةِ جُنَيْهٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، فَلَوْ كَلَّمْتَ صَاحِبَكَ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ فِي الْأَزْهَرِ يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ بَذْلُهُ شَرْعِيًّا، وَهَؤُلَاءِ الْمُجَاوِرُونَ يَذْكُرُونَهُ بِخَيْرٍ وَيَدْعُونَ لَهُ. فَأَجَابَ ذَلِكَ الشَّيْخُ قَائِلًا: إِنَّ الْكَوْنَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا وَهَذَا. فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: هَذَا الَّذِي أُرِيدُ، فَإِنَّ كَوْنَنَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا هَذِهِ النَّفَقَاتُ فِي الطُّرُقِ الْمَذْمُومَةِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُنْفِقَ صَاحِبُكَ عَلَى نَشْرِ عِلْمِ الدِّينِ لِيَكُونَ بَعْضُ الْإِنْفَاقِ عِنْدَنَا فِي الْخَيْرِ وَيَبْقَى لِلْمَوَالِدِ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ. فَقَالَ الشَّيْخُ حِينَئِذٍ: أَمَا قَرَأْتَ حِكَايَةَ الشَّعْرَانِيِّ مَعَ الزَّمَّارِ إِذْ رَأَى شَيْخًا كَبِيرًا يَنْفُخُ فِي مِزْمَارٍ وَالنَّاسُ يَتَفَرَّجُونَ عَلَيْهِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ فَمَا كَانَ مِنَ الشَّيْخِ إِلَّا أَنْ قَالَ:

يَا عَبْدَ الْوَهَّابِ أَتُرِيدُ أَنْ يَنْقُصَ مُلْكُ رَبِّكَ مِزْمَارًا؟ فَعَلِمَ الشَّعْرَانِيُّ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>