قَالَ الْأُسْتَاذُ: ثُمَّ تَرَكَنِي الْمَشَايِخُ بَعْدَ سَرْدِ الْحِكَايَةِ وَذَهَبُوا إِلَى الْمَوْلِدِ، فَلْيَنْظُرِ النَّاظِرُونَ إِلَى أَيْنَ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ بِبَرَكَةِ التَّصَوُّفِ وَاعْتِقَادِ أَهْلِهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا مُرَاعَاةِ شَرْعٍ! اتَّخَذُوا الشُّيُوخَ أَنْدَادًا، وَصَارَ يُقْصَدُ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْأَضْرِحَةِ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ وَشِفَاءُ الْمَرْضَى وَسَعَةُ الرِّزْقِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لِلْعِبْرَةِ وَتَذَكُّرِ الْقُدْوَةِ، وَصَارَتِ الْحِكَايَاتُ الْمُلَفَّقَةُ نَاسِخَةً فِعْلًا لِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ، وَنَتِيجَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ رَغِبُوا عَمَّا شَرَعَ اللهُ إِلَى مَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يُرْضِي غَيْرَهُ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا لَهُ وَصَارُوا كَالْإِبَاحِيِّينَ فِي الْغَالِبِ، فَلَا عَجَبَ إِذَا عَمَّ فِيهِمُ الْجَهْلُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الضَّعْفُ، وَحُرِمُوا مَا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ ; لِأَنَّهُمُ انْسَلَخُوا مِنْ مَجْمُوعِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّقَالِيدِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا بَلْ وَلَا فِي الثَّانِي، وَلَا يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْبِدَعِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا سَرَتْ إِلَيْنَا بِالتَّقْلِيدِ أَوِ الْعَدْوَى مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، إِذْ رَأَى قَوْمُنَا عِنْدَهُمْ أَمْثَالَ هَذِهِ الِاحْتِفَالَاتِ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا مِثْلَهَا يَكُونُ لِدِينِهِمْ عَظْمَةٌ وَشَأْنٌ فِي نُفُوسِ تِلْكَ الْأُمَمِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ كَانَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ وَسُقُوطِهِمْ فِيمَا سَقَطُوا فِيهِ.
وَهُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ فِي الْفَتْكِ بِهِمْ بِأَضْعَفَ مِنْ أَثَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَرْكُ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِبْدَالُ أَقْوَالِ النَّاسِ بِهِمَا. فَلَوْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ عَاقِلٌ أَوْ شَعْبٌ مُرْتَقٍ لَحَارَ، لَا يَدْرِي بِمَ يَأْخُذُ؟ وَلَا عَلَى أَيِّ الْمَذَاهِبِ وَالْكُتُبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ يَعْتَمِدُ، وَلَصَعُبَ عَلَيْنَا إِقْنَاعُهُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ دُونَ سِوَاهُ، أَوْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ وَقَفْنَا عِنْدَ حُدُودِ الْقُرْآنِ وَمَا بَيَّنَهُ مِنَ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ لَسَهُلَ عَلَيْنَا أَنْ نَفْهَمَ مَا الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا حَرَجَ فِيهَا وَلَا عُسْرَ، وَمَا الدِّينُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا خُلْفَ؟ وَلَكِنَّنَا إِذَا نَظَرْنَا فِي أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَتَشَعُّبِهَا، وَخِلَافَاتِهِمْ وَعِلَلِهَا، فَإِنَّنَا نَحَارُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إِذْ نَجِدُ بَعْضَهَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحِكْمَةِ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَهُمْ، بَلْ يَقُولُونَ فِيهِ: الْمُدْرِكُ قَوِيٌّ وَلَكِنَّهُ لَا يُفْتِي
بِهِ. وَلِمَاذَا؟ لِأَنَّ فُلَانًا قَالَ، فَقَوْلُ رَجُلٍ مِنْ رِجَالٍ كَثِيرِينَ جِدًّا نَجْهَلُ تَارِيخَ أَكْثَرِهِمْ يَكْفِي لِتَرْكِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَبِهَذَا قُطِعَتِ الصِّلَةُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ أَصْلِ الدِّينِ وَيَنْبُوعِهِ.
وَنَحْنُ لَا نَطْعَنُ فِي أُولَئِكَ الْقَائِلِينَ أَوِ الْمُرَجِّحِينَ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ تَارِيخُهُ مَعْرُوفًا لَنَا وَمَنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ ; بَلْ نُحْسِنُ فِيهِمُ الظَّنَّ وَنَقُولُ: إِنَّهُمْ قَالُوا بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَارِعِينِ بَلْ بَاحِثِينَ، وَإِنَّا نَسْتَرْشِدُ بِكَلَامِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ دَالُّونَ وَمُبَيِّنُونَ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ شَارِعُونَ ; بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَنْظُرَ دَائِمًا إِلَى كِتَابِهِ حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute