للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَقَائِدِهِ وَعِبَادَتِهِ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ وَاسِطَةٌ فَهِيَ وَاسِطَةُ الدَّلَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ وَالتَّبْيِينِ لِمَا نَزَّلَ اللهُ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى مَا نَزَلَ لِأَجْلِهِ مِنْ حَيَاةِ الرُّوحِ وَالْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ.

فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا يُؤْخَذُ الدِّينُ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ بِأَنْ لَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى، فَلَا نَطْلُبُ شَيْئًا إِلَّا مِنْهُ، وَطَلَبُنَا مِنْهُ يَكُونُ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي وَضَعَهَا وَهَدَانَا إِلَيْهَا، فَإِنْ جَهِلْنَا أَوْ عَجَزْنَا فَإِنَّنَا نَلْجَأُ إِلَى قُدْرَتِهِ، وَنَسْتَمِدُّ عِنَايَتَهُ وَحْدَهُ، وَبِهَذَا نَكُونُ مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا أَمَرَنَا فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا كَانَ مِنْ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (١٣: ٣٣) .

وَبَقِيَ صِنْفٌ آخَرُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَنْدَادِ وَهُمُ الْعَامَّةُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا هُمْ عُلَمَاءُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُحِلُّونَ لِمَرْضَاتِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ، وَيُخَالِفُونَ النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ بِضُرُوبٍ سَخِيفَةٍ مِنَ التَّأْوِيلِ لِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُفْتُوهُمْ بِخِلَافِ النَّصِّ الْتِمَاسًا لِخَيْرِهِمْ أَوْ هَرَبًا مِنْ سُخْطِهِمْ كَتَمُوا حُكْمَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ إِذَا سُئِلَ: أَهَذَا حَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ وَحَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ يَغُضُّ مِنْ صَوْتِهِ بِالْجَوَابِ، وَلَا يَجْهَرُ بِالْقَوْلِ مُدَارَاةً لِلْعَوَامِّ، إِذَا كَانَ الْجَوَابُ عَلَى غَيْرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَأَصْحَابِ السُّلْطَةِ. وَنَقُولُ: ((مُدَارَاةً لِلْعَوَامِّ)) حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، إِذْ يُسَمُّونَ النِّفَاقَ وَالْمُحَابَاةَ فِي الدِّينِ مُدَارَاةً لَمَّا كَانَتِ الْمُدَارَاةُ مَحْمُودَةً، وَكَذَلِكَ

كَانَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِمَّنْ قَبْلَهُمْ يُسَمُّونَ كِتْمَانَهُمْ بِأَسْمَاءَ مَحْمُودَةٍ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَعَنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَسَجَّلَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. فَهَلْ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فَيَرْضَى لِهَؤُلَاءِ بِأَنْ يُؤْثِرُوا الْعَامَّةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَجْعَلُونَهُمْ أَنْدَادًا لَهُ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ أَوْ أَشَدَّ؟

تَرَى الْعَالِمَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْتَسِبُ إِلَى الشَّرْعِ وَيُحْتَرَمُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَّبِعُ هَوَى مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ إِذَا أُوذُوا فِي اللهِ جَعَلُوا فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ، فَلَا يَتَّخِذُونَ اللهَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، فَهَلْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُؤْمِنًا إِذَا كَانَ يَتْرُكُ دِينَهُ لِأَجْلِ النَّاسِ؟ أَمْ شَرْطُ الْإِيمَانِ أَنْ يَصْبِرَ فِي سَبِيلِهِ عَلَى إِيذَاءِ النَّاسِ؟ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (٢٩: ٢) إِلَخْ. كَلَّا إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَتْبُوعِينَ وَالتَّابِعِينَ بَعْضُهُمْ فِتْنَةٌ لِبَعْضٍ وَسَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا أَخْبَرَنَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) التَّبَرُّؤُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ التَّفَصِّي مِمَّنْ يُكْرَهُ قُرْبُهُ وَجِوَارُهُ تَنَزُّهًا عَنْهُ. وَ (إِذْ) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَرَوْنَ الْعَذَابَ) فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ لَاحِقُهُ بِسَابِقِهِ فِي مَوْضُوعِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ. وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ أَنَّ عَذَابَ اللهِ تَعَالَى سَيَحُلُّ بِمُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي التَّابِعِ فِي الِاتِّخَاذِ وَالْمَتْبُوعِ فِيهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>