أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بِالْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَقَضَى بِأَنْ يُؤْمِنَ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيَحْمِلُوا دِينَهُ إِلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْعَجَمِ وَأَنْ يُعَاقِبَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ قَوْمِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ تَأْدِيبًا لِسَائِرِهِمْ، بِمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) (٩: ١٤) الْآيَةَ، وَيُؤَخِّرُ سَائِرَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ لَا يَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ يَكُونُ عَامًّا، بَلْ يَذَرُهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ إِلَى نِهَايَةِ آجَالِهِمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الشَّرِّ مِنْ كُفْرٍ وَظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَطُغْيَانُ السَّيْلِ وَالْبَحْرِ وَالدَّمِ مُسْتَعَارٌ مِنْهُ، وَالْعَمَهُ (كَالتَّعَبِ) : التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ فِي الْأَمْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ، وَالْمَعْنَى: فَنَتْرُكُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ طُغْيَانٍ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، يَتَرَدَّدُونَ فِيهِ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُ، لَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِئْصَالِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى فِي جَمَاعَتِهِمْ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِي أَفْرَادِهِمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ وَمَوْتِ بَعْضٍ، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ مِنْهُمْ، أَيْ هَذِهِ سُنَّتُنَا فِيهِمْ لَا نُعَجِّلُ شَيْئًا قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ بِمُقْتَضَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ عَامٌّ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْكَافِرِينَ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِذُنُوبِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ ظُلْمٍ وَفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ وَفُسُوقٍ لَأَهْلَكَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٣٥: ٤٥) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى هُنَا دُعَاؤُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ الْغَضَبِ، لَوْ يُعَجِّلُهُ اللهُ لَهُمْ لَأَهْلَكَهُمْ أَيْضًا (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ) (١٣: ١٤) بِرَبِّهِمْ أَوْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُ وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٣: ١٤) أَيْ ضَيَاعٍ لَا يَسْتَجِيبُهُ اللهُ لَهُمْ، لِحِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ.
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، هَذَا بَيَانٌ لِغَرِيزَةِ الْإِنْسَانِ الْعَامَّةِ وَشَأْنِهِ فِيمَا يَمَسُّهُ مِنَ الضُّرِّ، يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اسْتِعْجَالَ أُولَئِكَ النَّاسِ بِالشَّرِّ، تَعْجِيزًا لِنَبِيِّهِمْ وَمُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ طُغْيَانِهِمُ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ عَنْ مُقْتَضَى طَبِيعَتِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَهُ مِنَ الضُّرِّ مَا يَشْعُرُ بِشِدَّةِ أَلَمِهِ أَوْ خَطَرِهِ مِنْ إِشْرَافٍ عَلَى غَرَقٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّهْلُكَةِ، أَوْ شَدَّةِ مَسْغَبَةٍ، أَوْ إِعْضَالِ دَاءٍ دَعَانَا مُلِحًّا فِي كَشْفِهِ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ عَلَيْهِ: دَعَانَا مُضْطَجِعًا لِجَنْبِهِ، أَوْ قَاعِدًا فِي كَسْرِ بَيْتِهِ، أَوْ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ حَائِرًا فِي أَمْرِهِ، فَهُوَ لَا يَنْسَى حَاجَتَهُ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ، مَا دَامَ يَشْعُرُ بِمَسِّ الضُّرِّ وَلَذْعِهِ لَهُ، يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ النَّجَاةِ مِنْهُ، قَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَشَدَّ عَجْزًا وَأَقْوَى شُعُورًا بِالْحَاجَةِ إِلَى رَبِّهِ فَالَّتِي تَلِيهَا فَالَّتِي تَلِيهَا، وَثَمَّ حَالَةٌ رَابِعَةٌ هِيَ سَعْيُهُ لِدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَلَمْ تُذْكَرْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute