(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا تَسْتَغِيثُ رَبَّهَا مِنْ بَغْيِ دُوَلِ أُورُبَّةَ وَظُلْمِهَا، فَمَا لَنَا لَا نَرَى بَغْيَهَا يَعُودُ وَبَالُهُ عَلَيْهَا، وَمَا لَنَا لَا نَرَى وَعِيدَهُ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ نَازِلًا بِهَا، وَمُدِيلًا لِلشُّعُوبِ الشَّرْقِيَّةِ الْمَظْلُومَةِ مِنْهَا وَمِنْ شُعُوبِهَا الْمُؤَيِّدَةِ لَهَا؟ .
(قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَا جَاءَ إِلَّا مِنَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَالْجَهْلِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْعُمْرَانِ، فَإِنَّ فِي بِلَادِ هَذِهِ الدُّوَلِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ وَالْجَوَائِحِ وَالْفَقْرِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا فِي بَعْضِ بِلَادِ الشَّرْقِ، وَإِنَّهَا قَدْ قَتَلَتْ مِنْ رِجَالِهَا فِي الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ الْعَامَّةِ، أَضْعَافَ مَنْ قَتَلَتْهُمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا مَنْ أَهْلِ الشَّرْقِ مُنْذُ اعْتَدَتْ عَلَيْهِمْ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِنَّهَا قَدْ خَرَّبَتْ مِنْ عُمْرَانِهَا أَكْثَرَ مِمَّا خَرَّبَتْ فِي الشَّرْقِ، وَإِنَّهَا قَدْ خَسِرَتْ مِنْ أَمْوَالِهَا فِي أَرْبَعِ سِنِينَ أَضْعَافَ مَا رَبِحَتْ مِنَ الشَّرْقِ فِي مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّ مَا بَيْنَ شُعُوبِهَا بَعْضِهَا لِبَعْضٍ مِنَ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ لِلْوَثَبَانِ، وَالْفَتْكِ بِالْأَرْوَاحِ وَتَدْمِيرِ الْعُمْرَانِ، لَأَشَدُّ مِمَّا فِي قُلُوبِ شُعُوبِ الشَّرْقِ لِظَالِمِيهِمْ وَمُسْتَذِلِّيهِمْ مِنْهُمْ - فَهَذَا بَعْضُ انْتِقَامِ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ الْمُشَاهَدِ.
فَأَمَّا الْجَوَائِحُ السَّمَاوِيَّةُ فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَهَا إِلَى أَسْبَابِهَا مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ، فَمَكْرُهُمْ فِي آيَاتِهِ أَشَدُّ مِنْ مَكْرِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَأَمَّا الْمَصَائِبُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَوَخَّوْنَ تَخْفِيفَهَا، وَتَلَافِيَ شُرُورِهَا، بِالْمُفَاوَضَاتِ وَالْمُؤْتَمَرَاتِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ.
وَأَمَّا مَا نَتَمَنَّاهُ مِنَ الْإِدَالَةِ لِشُعُوبِنَا مِنْهُمْ فَلَا نَزَالُ غَيْرَ أَهْلٍ لَهُ لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّخَاذُلِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا هَدَاهَا اللهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَسْبَابِ السِّيَادَةِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ كَمَا نَبَّهْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَشَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا لِآيَاتِ كِتَابِهِ مِرَارًا، وَمِنَ الْمُكَابَرَةِ لِلْحِسِّ أَنْ نُنْكِرَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي بِلَادِنَا مِنْ عُمْرَانٍ فَهُوَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جُلُّهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَأَنَّ مَنْ يُسْتَخْدَمُونَ مِنْ مُلُوكِنَا وَأُمَرَائِنَا وَحُكَّامِنَا هُمْ شَرٌّ عَلَيْنَا مِنْهُمْ، بَلْ لَمْ يَسُودُونَا وَيَغْلِبُونَا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِنَا، إِلَّا بِمُسَاعَدَةِ سَادَتِنَا وَكُبَرَائِنَا إِيَّاهُمْ عَلَيْنَا (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (٨: ٥٣) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ (فِي ص ٣٢ - ٤١ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) . تَعْلَمْ أَنَّنَا إِذَا غَيَّرْنَا مَا بِأَنْفُسِنَا الْآنَ، بِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُنَا مِنْ إِيمَانٍ وَأَخْلَاقٍ
تَتْبَعُهَا الْأَعْمَالُ، وَأَوَّلُهَا الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا سُلِبَ مِنَّا يَرْجِعُ إِلَيْنَا، وَنُزَادُ عَلَيْهِ بِالسِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِنَا، وَلَوِ اتَّبَعُوا هُمْ كِتَابَنَا كُلَّهُ لَأَصْلَحُوا الْأَرْضَ كُلَّهَا.
ضَرَبَ اللهُ هَذَا الْمَثَلَ هُنَا لِلْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ مِنَ الْبَاغِينَ فِي الْأَرْضِ وَالظَّالِمِينَ لِلنَّاسِ، فَذَكَرَ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ فِي دُعَائِهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ لَهُ لَئِنْ أَنْجَاهُمْ مِنْهَا، لَيَكُونُنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ عَلَيْهَا، وَضَرَبَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَقَالَ: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٢٩: ٦٥)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute