للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَمَّا كَانَ سَبَبُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَإِفْسَادِ الْعُمْرَانِ، هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي حُبِّ التَّمَتُّعِ بِمَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّاتِ، ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا بَلِيغًا يَصْرِفُ الْعَاقِلَ عَنِ الْغُرُورِ بِهَا، وَيَهْدِيهِ إِلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا، وَاجْتِنَابِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهَا بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَشْبِيهِ زِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا فِي افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِمَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهِمَا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بِحَالِ الْأَرْضِ يَسُوقُ اللهُ إِلَيْهَا الْمَطَرَ فَتُنْبِتُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ الَّذِي يَسُرُّ النَّاظِرِينَ بِبَهْجَتِهِ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ جَائِحَةٌ تَحُسُّهُ وَتَسْتَأْصِلُهُ قُبَيْلَ بُدُوِ صَلَاحِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ لَا شَبَهَ لَهَا فِي صُورَتِهَا وَمَآلِهَا إِلَّا مَاءُ الْمَطَرِ فِي جُمْلَةِ حَالِهِ الْآتِيَةِ (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) أَيْ فَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ أَزْوَاجًا شَتَّى مِنَ النَّبَاتِ تَشَابَكَتْ بِسَبَبِهِ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي تَجَاوُرِهَا وَتَقَارُبِهَا، عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ) بَيَانٌ لِأَزْوَاجِ النَّبَاتِ وَكَوْنِهَا شَتَّى كَافِيَةً لِلنَّاسِ فِي أَقْوَاتِهِمْ وَمَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ، وَكُلِّ مَرَامِي آمَالِهِمْ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) أَيْ حَتَّى كَانَتِ الْأَرْضُ بِهَا فِي خُضْرَةِ زُرُوعِهَا السُّنْدُسِيَّةِ، وَأَلْوَانِ أَزْهَارِهَا الرَّبِيعِيَّةِ، كَالْعَرُوسِ إِذَا أَخَذَتْ حُلِيَّهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ، وَحُلَلَهَا مِنَ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنِ بِالْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ، فَتَحَلَّتْ وَازَّيَّنَتْ بِهَا اسْتِعْدَادًا لِلِقَاءِ الزَّوْجِ - وَلَا تَغْفُلْ عَنْ حُسْنِ

الِاسْتِعَارَةِ فِي أَخْذِ الْأَرْضِ زِينَتَهَا، حَتَّى كَانَ اسْتِكْمَالُ جَمَالِهَا، كَأَنَّهُ فِعْلُ عَاقِلٍ حَرِيصٍ عَلَى مُنْتَهَى الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ فِيهَا (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِثَمَرَاتِهَا، وَادِّخَارِ غَلَّاتِهَا، أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَيْ نَزَلَ بِهَا فِي هَذَا الْحَالِ أَمْرُنَا الْمُقَدَّرُ لِإِهْلَاكِهَا؛ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوْ نَهَارًا وَهُمْ غَافِلُونَ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا أَيْ كَالْأَرْضِ الْمَحْصُودَةِ الَّتِي قُطِعَتْ وَاسْتُؤْصِلَ زَرْعُهَا، فَالْحَصِيدُ يُشَبَّهُ بِهِ الْهَالِكُ مِنَ الْأَحْيَاءِ، كَمَا قَالَ فِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ الْمُهْلَكَةِ: (جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) (٢١: ١٥) وَيُشْبِهُ هَذَا الْهَلَاكُ فِي نُزُولِهِ فِي وَقْتٍ لَا يَتَوَقَّعُهُ فِيهِ أَهْلُهُ قَوْلُهُ: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضَحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٧: ٩٧ و٩٨) (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أَيْ هَلَكَتْ فَجْأَةً فَلَمْ يَبْقَ مِنْ زُرُوعِهَا شَيْءٌ، حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُنْبِتْ وَلَمْ تَمْكُثْ قَائِمَةً نَضِرَةً بِالْأَمْسِ، يُقَالُ: غَنِيَ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>