طَوِيلًا كَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْأَقْوَامِ الْهَالِكِينَ فِي أَرْضِهِمْ: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (٧: ٩٢) وَالْأَمْسُ: الْوَقْتُ الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالْأَمْسُ مَثَلٌ فِي الْوَقْتِ الْقَرِيبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ آنِفًا انْتَهَى. وَأَمَّا أَمْسُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ فَهُوَ اسْمٌ لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أَيْ كَهَذَا الْمَثَلِ فِي جَلَائِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِحَقِيقَةِ حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغُرُورِ النَّاسِ فِيهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، عِنْدَ تَعَلُّقِ الْآمَالِ بِنَوَالِهَا، نُفَصِّلُ الْآيَاتِ فِي حَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَأَمْثَالِ الْوَعْظِ وَالتَّهْذِيبِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ، لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِيهَا، وَيَزِنُونَ أَعْمَالَهُمْ بِمَوَازِينِهَا، فَيَتَبَيَّنُونَ رِبْحَهَا وَخُسْرَانَهَا.
وَالْعِبْرَةُ لِمُسْلِمِي عَصْرِنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَمْثَالِهَا، الَّتِي اهْتَدَى بِهَا الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ فَخَرَجَ مِنْ شِرْكِهِ وَخُرَافَاتِهِ وَأُمِّيَّتِهِ وَبَدَاوَتِهِ إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحَضَارَةِ، ثُمَّ اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا الْمَلَايِينُ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ، فَشَارَكَتْهُ فِي هَذِهِ السَّعَادَةِ وَالنِّعَمِ _ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْهَا إِلَّا تَرْتِيلَهَا بِالنَّغَمَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاسِمِ
وَالْمَآتِمِ، وَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّفَكُّرُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَلَوْ تَفَكَّرُوا لَاهْتَدَوْا، وَإِذًا لَعَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يَشْكُو مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ الشَّقَاءِ بِالْأَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالرَّذَائِلِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْعَدَاوَاتِ الْقَوْمِيَّةِ، وَالْحُرُوبِ الدَّوْلِيَّةِ، فَإِنَّمَا سَبَبُهُ التَّنَافُسُ فِي مَتَاعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَلْتَزِمَ الْقَصْدَ وَالِاعْتِدَالَ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَصْرِفَ جُلَّ مَالِهِ وَهِمَّتِهِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَعِزَّةِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقُوَّةِ دَوْلَتِهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِآخِرَتِهِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
وَمَا صَرَفَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللهِ، وَهُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، إِلَّا عُلَمَاءُ السُّوءِ الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ، وَزَعْمُهُمُ الْبَاطِلُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْبَشَرِ أَحَدٌ أَهْلًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ وَبِبَيَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الِاجْتِهَادَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَصْبَحَ ضَرْبًا مِنَ الْمُحَالِ، وَقَدْ أَنْشَأَتْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الْعَهْدِ - وَهِيَ أَكْبَرُ الْمَعَاهِدِ الدِّينِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً شَهْرِيَّةً بَاسِمِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) تُصَرِّحُ بِهَذِهِ الْجَهَالَةِ، وَتَطْعَنُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَإِلَى تَرْكِ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَنِ، وَإِنَّهَا لَدَرْكَةٌ مِنْ عَدَاوَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَبْلُغُوا قَعْرَهَا إِلَّا بِخِذْلَانٍ مِنَ اللهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute