بَعْدَ إِحْيَاءِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَاءِ الْمَطَرِ النَّازِلِ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ، أَوِ النَّابِعِ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ سَلَكَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا كَمَا قَالَ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) (٣٩: ٢١) الْآيَةَ بَلْ كَانَتِ الْحَيَاةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ قِسْمَيْنِ: حَيَاةُ النَّبَاتِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ، وَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ وَالْإِحْسَاسُ وَالْحَرَكَةُ بِالْإِرَادَةِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ وَصْفَ الْأَرْضِ بِالْحَيَاةِ مَجَازًا وَلَمْ يَكُونُوا يَصِفُونَ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ بِالْحَيَاةِ كَالْحَبِّ وَالنَّوَى وَبَيْضِ الْحَيَوَانِ وَمَنِيِّهِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِخْرَاجَ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِخُرُوجِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ وَالطَّائِرِ مِنَ الْبَيْضَةِ وَعَكْسِهِمَا وَمَا يُشَابِهُهُمَا، وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَتَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَرَحْمَتِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ وَضْعَ قَوَاعِدَ فَنِّيَّةٍ لِلْحَيَاةِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَحْدِيدَ وَظَائِفِهَا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِمَا يَتَّفِقُ وَقَوَاعِدَ الْفُنُونِ وَتَجَارِبَ الْعُلُومِ الَّتِي تَزْدَادُ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُهَا
يُثْبِتُونَ أَنَّ فِي أُصُولِ النَّبَاتِ مِنْ بَذْرٍ وَنَوَى وَبَيْضٍ وَمَنِيٍّ حَيَاةً، فَهُمْ يُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا خَرَجَتْ مِنْ مَادَّةٍ مَيِّتَةٍ، فَإِنَّ الْأَرْضَ عِنْدَهُمْ كَانَتْ كُتْلَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً انْفَصَلَتْ مِنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ صَارَتْ مَاءً، ثُمَّ نَبَتَتِ الْيَابِسَةُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ تَكَوَّنَ مِنَ الْمَاءِ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ فِي أَطْوَارٍ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ الْغِذَاءَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي يُحْرَقُ بِالنَّارِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ دَمٌ، وَمِنْ هَذَا الدَّمِ يَكُونُ الْبَيْضُ وَالْمَنِيُّ الْمُشْتَمِلَانِ عَلَى مَادَّةِ الْحَيَاةِ، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ مَوَادِّ الْبَدَنِ الْحَيَّةِ تَمُوتُ وَتَخْرُجُ مِنْهُ مَعَ الْبُخَارِ وَالْعَرَقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُفْرِزُهُ الْبَدَنُ وَيَلْفِظُهُ، وَيَتَجَدَّدُ فِيهِ مَوَادٌّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ تَحُلُّ مَحَلَّ مَا انْدَثَرَ وَخَرَجَ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: إِثْبَاتُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَتَدْبِيرِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَامٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَنِّ وَمُحْدَثَاتِ الْعِلْمِ، بَلْ تَزِيدُهُ كَمَالًا لِلْمُؤْمِنِ الْمُعْتَبِرِ، وَقَدْ تَكُونُ حِجَابًا لِغَيْرِهِ تَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ، فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ الْأَوْلَى مِنْ خَلْقِ اللهِ الْحَيِّ لِذَاتِهِ الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ.
وَوَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَوِيَّيْنِ مِنْهُمَا، كَخُرُوجِ الْمُؤْمِنِ مِنْ سُلَالَةِ الْكَافِرِ، وَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَالْبَرِّ مِنَ الْفَاجِرِ وَعَكْسِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (٣: ٢٧) الْوَارِدِ فِيهَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِهَا. وَهُنَاكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَذَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَرَاجِعْهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا يُنَاسِبُ مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute