للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا بِمَا أَوْدَعَهُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ السُّنَنِ وَقَدَّرَهُ مِنَ النِّظَامِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّدْبِيرِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أَيْ فَسَيَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ الْخَمْسِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اللهُ رَبُّ

كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ؛ إِذْ لَا جَوَابَ غَيْرُهُ وَهُمْ لَا يَجْهَلُونَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ لِحَمْلِهِمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَيْ فَقُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَتَعْلَمُونَ هَذَا وَتُقِرُّونَ بِهِ، فَلَا تَتَّقُونَ سُخْطَ اللهِ وَعِقَابَهُ لَكُمْ بِشِرْكِكُمْ بِهِ، وَعِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ شَيْئًا، وَهُوَ الْمَالِكُ لَهَا كُلِّهَا؟ ! .

(فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ فَذَلِكُمُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ اللهُ رَبُّكُمْ، أَيِ الْمُرَبِّي لَكُمْ بِنِعَمِهِ وَالْمُدَبِّرُ لِأُمُورِكُمْ، الْحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْحَيُّ بِذَاتِهِ، الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ، الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَفِي الْجُمْلَةِ إِدْمَاجٌ بِمَا يُسَمُّونَهُ الِاحْتِبَاكَ، أَيْ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الْبَاطِلُ؟ وَمَاذَا بَعْدَ الْهُدَى إِلَّا الضَّلَالُ؟ وَالْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ مَمْنُوعَةٌ كَالْعَقَائِدِ، فَالَّذِي يَفْعَلُ تِلْكَ الْأُمُورَ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، فَالْقَوْلُ بِرُبُوبِيَّةِ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يُعْبَدُ بِحَقٍّ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ هِي الْهُدَى، فَمَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْوُسَطَاءِ ضَلَالٌ، فَكُلُّ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ مَعَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ مُبْطِلٌ ضَالٌّ (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ وَتَتَحَوَّلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا كَانَ بِهِ اللهُ هُوَ الرَّبَّ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا الْإِلَهُ الْحَقُّ، الَّذِي يُعْبَدُ بِالْحَقِّ، هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، فَمَا بَالُكُمْ تُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؟ فَتَتَّخِذُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى وَلَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الرُّبُوبِيَّةِ؟ .

فَالْآيَةُ تُقَرِّرُ أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، الَّذِينَ أَخَذُوا عَقِيدَتَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَجَهِلُوا عَقَائِدَ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَفْهُومَيِ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ إِنَّمَا وَحَّدَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَاصَدَقِ الشَّرْعِيِّ، لَا فِي الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَاحْتُجَّ بِهَذَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَبْلِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ.

وَفِي الْآيَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ وَالْعِلْمِ، أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فِيهِمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>