للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقَ، وَالْحِقْدَ وَالضَّغَنَ وَالْحَسَدَ، وَسُوءَ النِّيَّةِ وَخُبْثَ الطَّوِيَّةِ وَفَسَادَ السَّرِيرَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الشِّفَاءَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ شِفَاءَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَكِي صَدْرِي فَقَالَ: ((اقْرَأِ الْقُرْآنَ؛ يَقُولُ اللهُ: (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) وَفِيهِ أَنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ فِي الْغَالِبِ أَلَمٌ نَفْسِيٌّ لَا بَدَنِيٌّ، قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ دِينِيًّا وَقَدْ يَكُونُ دُنْيَوِيًّا كَالْخَوْفِ وَالْحَاجَةِ، وَقِرَاءَةُ الْمُؤْمِنِ لِلْقُرْآنِ تَنْفَعُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (٦: ١٢٥) وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١٥: ٩٧ - ٩٩) وَالتَّسْبِيحُ بِحَمْدِ اللهِ وَالسُّجُودُ لَهُ وَعِبَادَتُهُ بِالصَّلَاةِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، كَمَا قَالَ: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٣٩: ٢٢) الْآيَةَ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَ حَلْقِهِ قَالَ: ((عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَالْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ)) وَهُوَ عَلَى ضَعْفِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قِيلَ إِذْ مَعْنَاهُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ، تَعْلَمْ مِنْهُ مَا يُفِيدُكَ، إِذْ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الصُّدُورِ وَالْعَسَلَ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الْبَدَنِ، فَهُوَ كَوَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلَ لِمَنْ شَكَا لَهُ اسْتِطْلَاقَ بَطْنِ ابْنِ أَخِيهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الطِّبِّ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَسَلَ مُطَهِّرٌ طِبِّيٌّ وَمُضَادٌّ لِلْفَسَادِ، وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ يَكُونُ مِنْ فَسَادٍ فِي الْأَمْعَاءِ، وَكَذَا وَجَعُ الْحَلْقِ بِالْتِهَابِ اللَّوْزَتَيْنِ وَنَحْوِهِ وَالْعَسَلُ مُطَهِّرٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شِفَاءً لِأَمْرَاضِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ تَنْكِيرَ الشِّفَاءِ فِي آيَةِ الْعَسَلِ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ لَا الْعُمُومِ. عَلَى أَنَّ الرُّقْيَةَ بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا قَدْ تُفِيدُ فِي شِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الرَّاقِي قَوِيَّ الْإِيمَانِ وَالْمَرْقِيُّ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ.

(الثَّالِثَةُ: الْهُدَى) وَهُوَ بَيَانُ الْحَقِّ الْمُنْقِذُ مِنَ الضَّلَالِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْبُرْهَانِ،

وَفِي الْعَمَلِ بِبَيَانِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ فِي أَحْكَامِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مَا فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ مِنْ مَبَاحِثِ الْوَحْيِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنْوَاعِهَا الدِّينِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَأَنْوَاعِهِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>