الَّتِي تُعَالِجُ بِهَا أَمْرَ الْأُمَّةِ)) فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، إِنْذَارًا وَتَبْشِيرًا، وَتَعْلِيمًا وَعَمَلًا: (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أَيْ وَمَا تَتْلُو مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الشَّأْنِ مِنْ قُرْآنٍ أُنْزِلَ عَلَيْكَ، تَعَبُّدًا بِهِ أَوْ تَبْلِيغًا لَهُ، فَـ ((مِنْ)) الْأُولَى لِلتَّعْلِيلِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَوِ الضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) لِلْكِتَابِ لِأَنَّ السِّيَاقَ بَلِ السُّورَةَ كُلَّهَا فِيهِ، وَإِضْمَارُهُ قَبْلَ الذِّكْرِ ثُمَّ بَيَانُهُ تَفْخِيمٌ لَهُ وَقِيلَ لِلَّهِ، لِذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَالتَّعْبِيرُ فِي خِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّأْنِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ أَوْ ذُو الْبَالِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أُمُورِهِ وَأَعْمَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عَظِيمَةً حَتَّى الْعَادَاتِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ كَانَ قُدْوَةً صَالِحَةً فِيهَا كُلِّهَا (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا فِي كُلِّ شُئُونِهَا وَأَعْمَالِهَا، بَعْدَ خِطَابِ رَأْسِهَا وَسَيِّدِهَا فِي أَخَصِّ شُئُونِهِ وَأَعْلَاهَا، فَتُذَكِّرُكَ الْآيَةُ فِي أَخْصَرِ الْأَلْفَاظِ وَأَقْصَرِهَا بِأَفْضَلِ مَا أَتَاكَ اللهُ مِنْ هِدَايَةٍ وَنِعْمَةٍ، وَتَنْتَقِلُ بِكَ إِلَى كُلِّ عَمَلٍ تَعْمَلُهُ مِنْ شُكْرٍ وَكُفْرٍ وَإِنْ كَانَ كَمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، فَإِنَّ مَجِيءَ. (عَمَلٍ) نَكِرَةً مَنْفِيَّةً يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَدُخُولَ (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ يُؤَكِّدُ هَذَا الْعُمُومَ، فَيَشْمَلُ أَدَقَّ الْأَعْمَالِ وَأَحْقَرَهَا وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٩٩: ٧، ٨) (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) أَيْ رُقَبَاءَ مُطَّلِعِينَ عَلَيْكُمْ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أَيْ تَخُوضُونَ وَتَنْدَفِعُونَ فِيهِ، فَنَحْفَظُهُ لِنَجْزِيَكُمْ بِهِ، وَأَصْلُ الْإِفَاضَةِ فِي الشَّيْءِ أَوْ مِنَ الْمَكَانِ الِانْدِفَاعُ فِيهِ بِقُوَّةٍ أَوْ بِكَثْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ (٢: ١٩٨) (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) أَيْ وَمَا يَبَعْدُ عَنْهُ وَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((يَعْزُبُ)) بِضَمِّ الزَّايِ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهَا - وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَبَ الرَّجُلُ يَعْزُبُ بِإِبِلِهِ، أَيْ يَبَعْدُ وَيَغِيبُ فِي طَلَبِ الْكَلَأِ الْعَازِبِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِفَلَاةٍ بَعِيدَةٍ حَيْثُ لَا زَرْعَ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَزَبٌ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مُنْفَرِدٌ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ عَزَبٌ أَيْ مُنْفَرِدٌ لَا زَوْجَ لَهُ أَوْ لَهَا وَيُقَالُ: أَمِرْأَةٌ عَزَبَةٌ وَاخْتُلِفَ فِي أَعْزَبَ وَعَزْبَاءَ. وَنَفِيُ عُزُوبِ الشَّيْءِ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى أَخَصُّ وَأَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْغَيْبَةِ أَوِ الْخَفَاءِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْإِفَاضَةَ فِي الْعَمَلِ أَخَصُّ مِنْ إِتْيَانِهِ مُطْلَقًا، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ دُونَ اللَّفْظِ الْأَعَمِّ مِنْهَا، هِيَ أَنَّ مَا يَفِيضُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مُهْتَمًّا بِهِ مُنْدَفِعًا فِيهِ جَدِيرٌ بِأَلَّا
يَنْسَى أَوْ يَغْفُلُ عَنْ مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ فِيهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ، فَاللَّفْظُ يُذَكِّرُهُ بِهِ تَذْكِيرًا مُنَبِّهًا مُؤَثِّرًا، وَكَذَلِكَ لَفْظُ (يَعْزُبُ) الدَّالُّ عَلَى الْخَفَاءِ وَالْبَعْدِ مَعًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَبْعُدَ وَيَخْفَى عَلَيْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، أَيْ أَقَلُّ شَيْءٍ يَبْلُغُ وَزْنُهُ ثِقَلَ ذَرَّةٍ وَهِي النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الصِّغَرِ وَالْخِفَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّقِيقَةِ مِنَ الْهَبَاءِ وَهُوَ الْغُبَارُ الَّذِي لَا يُرَى إِلَّا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ الْكُوَى إِلَى الْبُيُوتِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ أَيْ فِي الْوُجُودِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ أَهْلِهَا وَأَخَّرَهُ فِي آيَةِ سَبَأٍ (٣٤: ٣) وَقَدَّمَ السَّمَاءَ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ ثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَوَصَفَهُ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ فَنَاسَبَ تَقْدِيمَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ، فَإِنَّ فِيهَا مِنَ الشُّمُوسِ وَعَوَالِمِهَا مَا يَبْعُدُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ مَسَافَةَ أُلُوفِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute