الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ الَّتِي تُقَدَّرُ أَبْعَادُهَا بِسُرْعَةِ النُّورِ، كَمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ هَذَا الْعَصْرِ (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ قَائِمٌ بِرَأْسِهِ، مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِتَعْبِيرٍ أَدَقَّ وَأَشْمَلَ وَ (لَا) فِيهِ نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَيْ وَلَا شَيْءَ أَصْغَرَ مِنَ الذَّرَّةِ وَهُوَ مَا لَا تُبْصِرُونَهُ مِنْ دَقَائِقِ الْكَوْنِ كَمَا قَالَ: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ) (٦٩: ٣٨ و٣٩) وَلَا أَكْبَرَ مِنْهَا وَإِنْ عَظُمَ مِقْدَارُهُ كَعَرْشِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِـ ((أَصْغُرُ)) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَلَا يَخْفَى تَوْجِيهُهُ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى أَهْلِهِ. قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَصْغَرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي سِيَاقِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيِّ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْأَكْبَرَ لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَكَوْنِ الْأَكْبَرِ لَا يَكْبُرُ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْأَصْغَرَ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ إِلَّا وَهُوَ مَعْلُومٌ وَمَحْصِيٌّ عِنْدَهُ وَمَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ تَامِّ الْبَيَانِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَقَادِيرُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا إِكْمَالًا لِلنِّظَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ فِي تَفْسِيرِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (٦: ٥٩) الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَرَاجِعْهُ فِي (ص ٣٨١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ أَشْيَاءَ لَا تُدْرِكُهَا الْأَبْصَارُ، وَقَدْ رُؤِيَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْآلَاتِ الَّتِي تُكَبِّرُ الْمَرْئِيَّاتِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَظْهَرُ حِكْمَتُهَا
لِلنَّاسِ آنًا بَعْدَ آنٍ، وَتَقَدَّمَ التَّذْكِيرُ بِمَا لَهَا مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ.
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ سَعَةَ عِلْمِهِ، وَمُرَاقَبَتَهُ لِعِبَادِهِ، وَإِحْصَاءَهُ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَجَزَاءَهُمْ عَلَيْهَا، وَذَكَّرَهُمْ بِفَضْلِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهِ، بَيَّنَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ حَالَ الشَّاكِرِينَ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الدِّينِ فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ) افْتُتِحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِكَلِمَةِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ وَتَوْجِيهِ الْفِكْرِ لَهَا، وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ وَلِيٍّ وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الْوَلَاءِ وَالتَّوَالِي، وَمِنَ الْوِلَايَةِ وَالتَّوَلِّي، فَيُطْلَقُ عَلَى الْقَرِيبِ بِالنَّسَبِ وَبِالْمَكَانَةِ وَالصَّدَاقَةِ، وَعَلَى النَّصِيرِ، وَالْمُتَوَلِّي لِلْأَمْرِ وَالْحُكْمِ أَوْ عَلَى الْيَتِيمِ وَالْقَاصِرِ الْمُدَبِّرُ لِشُئُونِهِ، وَيُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ وَالرَّبُّ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢: ٢٥٧) وَفَصَّلْنَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute