للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَكِنَّ غُلَاةَ الشِّيعَةِ نَقَضُوا أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَسَاسِهِ بِدَعَايَةِ عِصْمَةِ الْأَئِمَّةِ، وَتَأْوِيلِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَانَ هَذَا أَصْلَ كُلِّ ابْتِدَاعٍ مُخْرِجٍ مِنَ الْمِلَّةِ، إِذِ انْتَهَى بِأَهْلِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْوَحْيِ وَادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْمِلَّةِ سِرًّا فَعَلَانِيَةً.

(٢) النَّظَرِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَتَحْكِيمُهَا فِي النُّصُوصِ النَّقْلِيَّةِ، وَكَانَ أَضَرَّهَا وَشَرَّهَا ذَلِكَ التَّنَازُعُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الِاتِّبَاعِ وَعَلَى رَأْسِهِمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدُعَاةِ الِابْتِدَاعِ مِنْ مُتَكَلِّمِي نُظَّارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَلَوْلَا تَدَخُّلُ سُلْطَانِ الْعَبَّاسِيِّينَ فِي نَصْرِ فَرِيقٍ عَلَى فَرِيقٍ، لَمَا وَصَلَتْ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ مِنَ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ، وَقَدْ ضَعُفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا دُوَلٌ تَنْصُرُ بَعْضَ أَهْلِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمَتَى تَوَطَّدَتْ حُرِّيَّةُ الْعِلْمِ كَانَ النَّصْرُ وَالْفَلْجُ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَسَيَمُوتُ مَا بَقِيَ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ بِمَوْتِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَى قَوَاعِدِهَا

وَنَظَرِيَّاتِهَا، بَلْ هِيَ قَدْ مَاتَتْ وَصَارَتْ مِنْ مَوَارِيثِ التَّارِيخِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَاتَ هُوَ وَإِنْ بَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ تَقْلِيدِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَيَخْلُفُهُ عِلْمٌ آخَرُ فِي حِرَاسَةِ الْعَقَائِدِ مِنْ شُبُهَاتِ الْعِلْمِ وَفَلْسَفَةِ هَذَا الْعَصْرِ، مَعَ إِبْقَاءِ الْخَلْطِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ عَقَائِدِ الدِّينِ وَمُحَاوَلَةِ تَحْكِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، كَمَا فَعَلَ نُظَّارُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ فَجَنَوْا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا أَضْعَفَ سُلْطَانَ الدِّينِ فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، بِمَا يُوقِفُهَا عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْفَضِيلَةِ وَعَمَلِ الْبِرِّ، وَأَضْعَفَ سُلْطَانَ الْعِلْمِ فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ وَهِيَ إِظْهَارُ سُنَنِ اللهِ فِي الْعَالَمِ وَتَسْخِيرِ قُوَى الطَّبِيعَةِ لِمَنَافِعِ النَّاسِ، وَفِاقًا لِمَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلَوْ بَقِينَا عَلَى تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَهَانَ الْأَمْرُ ; لِأَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى قَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ نَبَتَتْ نَابِتَةٌ وَدَعَايَةٌ لِتَحْكِيمِ نَظَرِيَّاتِ الْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ وَالنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا بِتَأْوِيلٍ يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَأُصُولَ الشَّرْعِ كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ يَتْرُكُ مَدْلُولَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ وَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ مِنْهَا، وَلِبَعْضِ الدُّعَاةِ إِلَى هَذَا الْإِلْحَادِ فِي مِصْرَ كُتُبٌ تُطْبَعُ وَمَقَالَاتٌ تُنْشَرُ فِي الصُّحُفِ مُصَرِّحَةٌ بِهَذَا، وَمَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ تُقِرُّهَا لِأَنَّهَا لَا تَفْهَمُهَا.

(٣) دَعْوَى الْكَرَامَاتِ وَالْكَشْفِ، وَتَحْكِيمُهُ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَعِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ وَتَفْسِيرِ نُصُوصِهِ، وَفِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ نَجَمَتِ الْبِدَعُ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ صَغِيرَةً كَقُرُونِ الْمَعْزِ ثُمَّ كَبِرَتْ فَصَارَتْ كَقُرُونِ الْوُعُولِ الَّتِي تُنَاطِحُ الصُّخُورَ، هَاجَمَهَا عُلَمَاءُ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ يُؤَيِّدُهُمُ الْخُلَفَاءُ وَالْمُلُوكُ فَانْهَزَمَتْ أَمَامَهُمْ، حَتَّى إِذَا مَا ضَعُفَ الْعِلْمُ فَصَارَ تَقْلِيدِيًّا، وَضَعُفَ الْحُكْمُ فَصَارَ إِرْثًا جَهْلِيًّا، وَصَارَ صُوفِيَّةُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مِثْلِ الشَّعَرَانِيِّ وَسَلَاطِينُ مِصْرَ مِثْلَ قَايْتَبَايْ، خَضَعَتْ رِقَابُ الْمُسْلِمِينَ لِوِلَايَةِ مِثْلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْحَضَرِيِّ الَّذِي يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَيَخْطُبُهُمْ فَيَقُولُ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا إِبْلِيسُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>