عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَأَرَدْتُمُ التَّفَصِّيَ مِنْهُ بِالْإِيقَاعِ بِي، فَإِنَّنِي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى
اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ رِسَالَتَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِي (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) مِنْ أَجْمَعَ الْأَمْرَ كَالسَّفَرِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، قِيلَ أَصْلُهُ جَمْعُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الشَّيْءِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ لَمْ يَشِذَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَيْ أَجْمِعُوا مَا تُرِيدُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ لِيُعِينُوكُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ كَمَا أَدْعُو رَبِّي وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ: (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) الَّذِي تَعْتَزِمُونَهُ (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أَيْ خَفِيًّا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَيْرَةِ أَوِ اللَّبْسِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّرَدُّدَ فِي الْإِنْقَاذِ، بَعْدَ الْعَزْمِ وَالْإِجْمَاعِ، بَلْ كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ فِيهِ لِكَيْلَا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ بِظُهُورِ الْخَطَأِ أَوِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ هُوَ الصَّوَابَ (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) ذَلِكَ الْأَمْرَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِ وَاعْتِزَامِهِ وَبَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا غُمَّةَ فِيهَا وَلَا الْتِبَاسَ بِأَنْ تُنَفِّذُوهُ بِالْفِعْلِ، فَالْقَضَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَدَاءِ الشَّيْءِ وَتَنْفِيذِهِ وَإِتْمَامِهِ وَمِنْهُ: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) (٢٨: ٢٩) (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) (٣٣: ٢٣) وَ (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا) (٣٣: ٣٧) وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى لِإِفَادَةِ إِبْلَاغِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِالْفِعْلِ كَمَا قَالَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ آيَةَ رَقْمِ ١١ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ، وَإِذَا عُدِّيَ هَذَا بِإِلَى يُفِيدُ تَبْلِيغَ خَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ) (١٧: ٤) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (١٥: ٦٦) ، (وَلَا تُنْظِرُونِ) أَيْ لَا تُمْهِلُونِي بِتَأْخِيرِ هَذَا الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا.
هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَبْلَغِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عِبَارَةً، وَأَجْمَعِهَا عَلَى إِيجَازِهَا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَدَرَجَةِ إِيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ وَثِقَتِهِمْ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشَجَاعَتِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِهِ وَالرَّجَاءِ فِيمَا سِوَاهُ، وَبَيَانِ خَاتَمِهِمْ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَقْوَامِهِمْ، وَحَسُنِ وَعْظِهِ لَهُمْ بِوَحْيِ رَبِّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَضْرِبُ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ مَعَهُمْ مَثَلَ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فِي غُرُورِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِرَسُولِهِ وَلِمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلِمَا
يَعْتَزُّ بِهِ كُلٌّ مِنَ الرَّسُولَيْنِ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَالْجَزْمِ بِإِهْلَاكِ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِجَعْلِهِمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَأَصْحَابَ السُّلْطَانِ فِيهَا. صَوَّرَتِ الْآيَةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ الْبُلَغَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِمُطَالَبَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ - الْمَشْهُورُ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَظَوَاهِرِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ - بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْإِيقَاعِ بِهِ وَاكْتِفَاءِ أَمْرِهِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ دَعْوَتِهِ، مُطَالَبَةَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الْمُذِلِّ بِبَأْسِهِ، وَالْمُعْتَصِمِ بِإِيمَانِهِ بِوَعْدِ رَبِّهِ وَتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، لِلضَّعِيفِ الْعَاجِزِ عَنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ اسْتِيفَائِهِ لِجَمِيعِ أَسْبَابِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ، إِذْ أَمَرَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى بِإِجْمَاعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute