للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَمْرِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِهَا مُتَفَرِّقًا بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَضُمُّوا إِلَى هَذِهِ الْقُوَّةِ النَّفْسِيَّةِ الْكَسْبِيَّةِ قُوَّةَ الْإِيمَانِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِشُرَكَائِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ الْمُجَمَّعَةُ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوَهْنُ أَوِ الْعِلَلُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْفَسْخِ قَبْلَ التَّنْفِيذِ، نَهَاهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي أَجْمَعُوا شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْخَفَاءِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ.

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ إِجْمَاعَ الْعَزْمِ فِي الْأَمْرِ لَا يَكُونُ بَعْدَ الْجَزْمِ بِالْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ الْبَاعِثِ إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ غُمَّةً امْتَنَعَ إِجْمَاعُهُ كَمَا يَمْتَنِعُ إِجْمَاعُ الصِّيَامِ مِنَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ إِذَا غُمَّ الْهِلَالُ فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَالْأَمْرُ بِإِجْمَاعِ الْأَمْرِ يُغْنِي عَنِ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ غُمَّةً، فَمَا حِكْمَةُ ذِكْرِهِ بَعْدَهُ وَعَطْفِهِ عَلَيْهِ بِـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الرُّتْبَةِ؟ (قُلْتُ) : يَكْفِي فِي إِجْمَاعِ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيقَاعِ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ غَيْرُ مُعَارَضَةٍ بِمَفْسَدَةٍ أَرْجَحَ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْحَيْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفَسْخِ أَوِ التَّرَدُّدِ فَمِنْ ثَمَّ اقْتَضَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يُؤَكِّدَ بِهَذَا النَّهْيِ عَنِ الْغُمَّةِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ وَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْطِفَ بِـ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَرْتَبَتَهُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ قَضَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَتَنْفِيذِهِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْأَمْرِ

الْأَوَّلِ وَالنَّهْيِ كِلْتَيْهِمَا، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا مَعًا بِـ (ثُمَّ) ، وَأُكِّدَ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِنْظَارِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ الَّتِي تُفِيدُ مُطْلَقَ الْجَمْعِ لِاتِّحَادِ زَمَنِهِمَا وَرُتْبَتِهِمَا فَلَا تَرْتِيبَ بَيْنِهِمَا.

وَقَرَأَ نَافِعٌ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْجَمْعِ، أَيِ اجْمَعُوا مَا تَفَرَّقَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: (وَشُرَكَاءَكُمْ) مَفْعُولًا بِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، لَا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ (وَشُرَكَاؤُكُمْ) بِالرَّفْعِ أَيْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَلَا تُتْلَى فِي الصَّلَاةِ، وَقُرِئَ ((أَفْضُوا إِلَيَّ)) مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى الشَّيْءِ وَهُوَ الْوُصُولُ وَالِانْتِهَاءُ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أَيِ انْصَرَفْتُمْ عَنِّي مُصِرِّينَ عَلَى إِعْرَاضِكُمْ عَنْ تَذْكِيرِي (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أَيْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ عَلَى هَذَا التَّذْكِيرِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَسَائِلِ الدَّعْوَةِ وَالنُّصْحِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْأَجْرِ وَالْمُكَافَآتِ فَتَتَوَلَّوْا لِثِقَلِهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ فَيَضُرُّنِي أَنْ يَفُوتَ عَلَيَّ وَأُحْرَمَهُ فَأُبَالِيَ بِتَوَلِّيكُمْ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أَيْ مَا أَجْرِي وَثَوَابِي عَلَى دَعْوَتِكُمْ وَتَذْكِيرِكُمْ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، فَهُوَ يُوَفِّينِي إِيَّاهُ سَوَاءٌ آمَنْتُمْ أَوْ تَوَلَّيْتُمْ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيِ الْمُنْقَادِينَ الْمُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ لِمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَسْلَمْتُمْ أَمْ كَفَرْتُمْ، فَلَا أَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (١١: ٨٨) .

<<  <  ج: ص:  >  >>