إِنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ وَكِتْمَانَ بَعْضِ الْوَحْيِ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، وَشَأْنُهُ أَنْ تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، بِحَسَبِ الْمَعْهُودِ مِنْ طِبَاعِ النَّاسِ، فَهَلْ أَنْتَ مُجْتَرِحٌ لِهَذَا التَّرْكِ، أَوْ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا يَعْرِضُ لَكَ بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ؟ كَلَّا لَا تَفْعَلْهُ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٦: ١٢٧) وَقَوْلِهِ: (المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧: ١ و٢) وَقَوْلِهِ (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (١٨: ٦) وَقَوْلِهِ (طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) (٢٦: ١ - ٤) أَيْ لَعَلَّكَ قَاتِلُهَا غَمًّا وَانْتِحَارًا؟ أَيْ لَا تَفْعَلْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ عِنَادَهُمْ وَجُحُودَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَشِدَّةَ اهْتِمَامِكَ بِأَمْرِهِمْ فِيمَا لَيْسَ أَمْرُهُ بِيَدِكَ، مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى ذَلِكَ لَوْلَا عِصْمَتُنَا إِيَّاكَ وَتَثْبِيتُنَا لَكَ، فَهَلْ تُصِرُّ عَلَيْهِ حَتَّى تَبْخَعَ نَفْسَكَ؟ لَا لَا، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَوْنِ الْإِرْشَادِ مَبْنِيًّا عَلَى بَيَانِ الْوَاقِعِ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (١٧: ٧٤) .
(إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) فَعَلَيْكَ أَنْ تُبَلِّغَ جَمِيعَ مَا أُمِرْتَ أَنْ تُبَلِّغَهُ وَتُنْذِرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَإِنْ سَاءَهُمْ وَأَطْلَقَ أَلْسِنَتَهُمْ (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أَيْ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِأُمُورِ
الْعِبَادِ وَالرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لَا مِنْ مَوْضُوعِ التَّعْلِيمِ وَالتَّبْلِيغِ، الَّذِي هُوَ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ. كَمَا قَالَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (٢: ٢٧٢) وَ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٨٨: ٢١ - ٢٢) وَ: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (٥٠: ٤٥) .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ ((لَعَلَّ)) لِلتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا رَجَاءٌ وَطَمَعٌ وَشَكٌّ. وَقَالُوا: إِنَّهَا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْقَطْعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ) وَقَالَ شَيْخُنَا إِنَّهَا لِلْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ ; أَيْ لِيُعِدَّكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ لِلْفَلَاحِ بِالتَّقْوَى، وَحَقَّقْنَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِإِطْمَاعِ الْمُخَاطَبِ وَإِحْدَاثِ الرَّجَاءِ عِنْدَهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سِيبَوَيْهِ. وَحَصَرَ ابْنُ هِشَامٍ مَعَانِيَهَا فِي ثَلَاثٍ: ١ - التَّوَقُّعِ: وَهُوَ تَرَجِّي الْمَحْبُوبِ، وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. ٢ - التَّعْلِيلِ: قَالَ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي فِرْعَوْنَ: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (٢٠: ٤٤) ٣ - الِاسْتِفْهَامِ: وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْكُوفِيِّينَ (أَقُولُ) : وَإِذَا كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُهُ كَاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ الْمُرَادِ بِهِ النَّهْيُ أَوِ النَّفْيُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَنَا.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute