للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْفُرْقَانِ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (٢٥: ٤ - ٦) فَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قِصَصُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمُ الَّتِي سَطَرُوهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَلِّي نَفْسَهَا عَنْ جَهْلِهَا بِالْأَدْيَانِ وَالتَّوَارِيخِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خُرَافَاتٌ وَأَكَاذِيبُ، فَالتَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ هُوَ الَّذِي يُفَنِّدُ هَاتَيْنِ التُّهْمَتَيْنِ الْمُوَجَّهَتَيْنِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْهَضِ حُجَّةٍ عَمَلِيَّةٍ، لَا جَدَلِيَّةٍ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ يَثْبُتُ بِهِ مِنْ بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْعَجْزِ عَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، وَلِهَذَا حَسُنَ مَجِيئُهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِرَأْيِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَظَنُّوا أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوَاحِدَةِ لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ وَاحِدَةٍ كَانَ أَعْجَزَ عَنِ اثْنَتَيْنِ فَضْلًا عَنْ عَشْرٍ، فَتَفْصُوا مِنْ هَذَا بِدَعْوَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مَوْضُوعُ التَّحَدِّي مُتَّحِدًا مُطْلَقًا وَهُوَ هُنَا مُخْتَلِفٌ وَمُقَيَّدٌ.

ذَلِكَ بِأَنَّ افْتِرَاءَ الْأَخْبَارِ الْمُدَّعَى فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ. وَهِيَ قِسْمَانِ: (١) قِصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَحَدَّى بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهَا غَيْبِيًّا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَفِي غَيْرِهِمَا. (٢) أَخْبَارُ التَّكْوِينِ ; كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالْجَانِّ، لَا أَذْكُرُ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّحَدِّي بِهَا

تَحَدِّيًا خَاصًّا، وَلَا أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا، فَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَوْضِعَ نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ الْوَارِدَةِ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ النِّعَمِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، أَوْ سِيَاقِ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَحُجَجِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُ هَذِهِ كُلَّهَا قِسْمًا وَاحِدًا فِي هَذَا الْبَحْثِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ.

(وَثَانِيهِمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْآتِيَةُ وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا: (١) وَعْدُ اللهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَبِخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَتَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَتَمَارَوْنَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ (٢) الْقِيَامَةُ وَبَعْثُ الْخَلْقِ وَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ.

فَأَخْبَارُ الْغَيْبِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ هِيَ ثَلَاثَةٌ: (١) أَخْبَارُ الْآخِرَةِ. (٢) أَخْبَارُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ صِدْقُهَا إِلَّا بِتَأْوِيلِهَا، أَيْ وُقُوعِ مَدْلُولِهَا. (٣) قِصَصُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَهِيَ

<<  <  ج: ص:  >  >>