قَدْ يَعْتَرِضُ النَّاظِرُ فِي التَّارِيخِ مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ ذَهَابِ عِزِّ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَكَتَمُوا الْحَقَّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنَّ عِيشَةَ الْيَهُودِ كَانَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ خَيْرًا مِنْهَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ مَقْهُورِينَ بِحُكْمِ النَّصَارَى الشَّدِيدِ وَتَعَصُّبِهِمُ الْفَاحِشِ، فَسَاوَى الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَاهُمْ كَمَالَ الْحُرِّيَّةِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَحَسُنَتْ حَالُهُمْ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَكَثُرَ مَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَقِلَّ. وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقْوَوْا عَلَى جَمِيعِ نَصَارَى أُورُوبَّا فَبَقِيَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمَمَالِكِ سُلْطَانُهَا وَمَا تَتَمَتَّعُ بِهِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَمَالِكِ الْوَثَنِيَّةِ وَهُمْ أَعْرَقُ فِي الْبَاطِلِ مِنَ النَّصَارَى. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ يَهُودَ الْحِجَازِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكْتُمُونَ مَا عَرَفُوا مِنْ نَعْتِهِ وَيُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، فَهُمُ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فَلَقُوا جَزَاءَهُمُ الَّذِي تَمَّ بِجَلَّائِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ الْحِجَازِ. وَأَمَّا يَهُودُ سُورِيَةَ وَغَيْرِهَا (كَالْأَنْدَلُسِ) فَقَدْ كَانُوا يُسَاعِدُونَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَدُعَاتِهَا حَتَّى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ لِيَخْلُصُوا مِنْ ظُلْمِ النَّصَارَى وَاسْتِبْدَادِهِمْ فِيهِمْ، فَنَالُوا مَنْ حَسْنِ الْجَزَاءِ بِمِقْدَارِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَوْ آمَنُوا وَقَبِلُوا الْحَقَّ كُلَّهُ وَأَيَّدُوهُ لِذَاتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَأُوتُوا أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، وَجَزَاءَهُمْ ضِعْفَيْنِ، وَكَانُوا أَئِمَّةً وَارِثِينَ وَسَادَةً عَالِينَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ مُلْكُهُمْ وَمَتَاعُهُمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ بِضَعْفِ حُقِّ الْإِسْلَامِ عَنْ بَاطِلِهِمْ، فَإِنَّ الَّذِينَ حَاوَلُوا فَتْحَ مَا وَرَاءَ الْأَنْدَلُسِ مِنْ أُورُبَّا لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ كُلِّهِمْ نَشْرَ دَعْوَةِ الْحَقِّ، إِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ عَظَمَةَ الْمُلْكِ وَالْغَنَائِمِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَعْتَدِيَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ لِأَجْلِ سَلْبِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ; فَإِنَّ الْمُعْتَدِيَ مُبْطِلٌ، وَالْمُدَافِعَ مُحِقٌّ فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِلَادِهِ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ الظَّفَرُ إِذَا أَخَذَ لَهُ أُهْبَتَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ، وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ الْمَمَالِكِ الَّتِي لَمْ يَقْوَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ تَرْكِ الدَّعْوَةِ لِأَجْلِ الْهِدَايَةِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يُبِيحُ الْحَرْبَ لِذَاتِهَا - وَقَدْ حَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ - وَإِنَّمَا يُوجِبُ تَعْمِيمَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَمَنْ عَارَضَهَا وَجَبَ جِهَادُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ حَتَّى يَقْبَلَهَا أَوْ يَكُونَ لِأَهْلِهَا السُّلْطَانُ الَّذِي يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ نَشْرِهَا بِدُونِ مُعَارِضٍ ;
أَيْ: أَنَّهُ يُوجِبُ الْجِهَادَ مَا دَامَ النَّاسُ يُفْتَنُونَ فِي الدِّينِ - أَيْ لَا تَكُونُ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ فِيهِ وَلَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ - أَوْ يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى بِلَادِهِمْ (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٢: ١٩٠ - ١٩٣) وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا قَرِيبًا.
(أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أَيْ: أُولَئِكَ الْكَاتِمُونَ لِكِتَابِ اللهِ وَالْمُتَّجِرُونَ بِهِ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ مِنْ ثَمَنِهِ إِلَّا مَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ وَانْتِهَاءِ مَطَامِعِهِمْ بِعَذَابِهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ إِلَّا النَّارَ أَوْ طَعَامَ النَّارِ مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمَنَافِعِ بِالْأَكْلِ ; لِأَنَّهُ أَعَمُّهَا، وَالْمَعْنَى لَا تَمْلَأُ بُطُونَهُمْ إِلَّا النَّارُ، فَإِنَّ الْأَكْلَ لَمَّا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ لِذِكْرِ الْبَطْنِ إِذَا قِيلَ أَكَلَ فِي بَطْنِهِ، وَرَأَيْنَاهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute