يُعَبِّرُونَ بِذَلِكَ عَنِ الِامْتِلَاءِ ; يَقُولُونَ أَكَلَ فِي بَطْنِهِ يُرِيدُونَ مَلَأَ بَطْنَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ دُونَ امْتِلَاءِ بَطْنِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُشْبِعُ جَشَعَهُمْ، وَلَا يَذْهَبُ بِطَمَعِهِمْ إِلَّا النَّارُ الَّتِي يَصِيرُونَ إِلَيْهَا عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ((وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ)) وَاسْتَشْهَدُوا لِلتَّعْبِيرِ بِأَكْلِ النَّارِ عَنْ سَبَبِ عَذَابِهَا بِقَوْلِ الْقَائِلِ فِي زَوْجِهِ:
دِمَشْقُ خُذِيهَا لَا تَفُتْكِ فَلَيْلَةٌ ... تَمُرُّ بِعُودِي نَعْشُهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ
أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِالدَّمِ الدِّيَةَ الَّتِي هُوَ سَبَبُهَا - وَأَكْلُهَا عَارٌ عِنْدَهُمْ - فَهُوَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يُبْتَلَى بِأَكْلِ الدِّيَةِ إِنْ لَمْ يَرُعْ زَوْجَهُ وَيُزْعِجْهَا بِضَرَّةٍ هِيَ مِنَ الْجَمَالِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَأَكْلُ الدِّيَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُ أَهْلِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالُوا: إِنَّ الْكَلَامَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ شَائِعَةٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَجَمَعُوا بِهَذَا بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١٥: ٩٢) وَقَوْلِهِ: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) (٧: ٦) وَقِيلَ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَهُ (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أَيْ: لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ وَقَدْ مَاتُوا وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ: شَدِيدُ الْأَلَمِ.
ثُمَّ قَالَ فِيهِمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَخْ، أَوِ الْمَجْزِيُّونَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَّرَهُمُ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فِي الدُّنْيَا، فَأَمَّا الْهُدَى فَهُوَ كِتَابُ اللهِ وَشَرْعُهُ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (٢: ٢) وَأَمَّا الضَّلَالَةُ: فَهِيَ الْعِمَايَةُ الَّتِي لَا يَهْتَدِي بِهَا الْإِنْسَانُ لِمَقْصِدِهِ، وَتَكُونُ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَآرَاءِ النَّاسِ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ - وَهَذِهِ الْآرَاءُ لَا ضَابِطَ لَهَا وَلَا حَدَّ، فَأَهْلُهَا فِي خِلَافٍ وَشِقَاقٍ دَائِمٍ كَمَا سَيَأْتِي - فَمَنْ أَجَازَ لِنَفْسِهِ اتِّبَاعَ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعِبَادَةِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَدْ تَرَكَ الْهُدَى الْوَاضِحَ الْمُبِينَ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ، وَصَارَ إِلَى تِيهٍ مِنَ الْآرَاءِ مُشْتَبَهِ الْأَعْلَامِ، يَضِلُّ بِهِ الْفَهْمُ، وَلَا يَهْتَدِي فِيهِ الْوَهْمُ، وَذَلِكَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَشِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، فَإِنَّ اللهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ حُدُودَ الْعُبُودِيَّةِ، وَحُقُوقَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا بِفَهْمِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ (وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أَيْ: وَاشْتَرَوُا الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا أَثَرُ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ مُتَّبِعَ الْهُدَى هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ لِمَا يَفْرُطُ مِنْهُ وَمَا يُلِمُّ هُوَ بِهِ مِنَ السُّوءِ، وَمُتَّبِعَ الضَّلَالِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعَذَابِ، وَمَنْ دُعِيَ إِلَى الْحَقِّ يَعْرِفُ هَذَا، فَإِذَا هُوَ اخْتَارَ الضَّلَالَةَ بَعْدَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ فَقَدِ اشْتَرَى الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَكَانَ هُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ إِذِ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، غُرُورًا بِالْعَاجِلِ، وَاسْتِهَانَةً بِالْآجِلِ (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أَيْ: إِنَّ صَبْرَهُمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ الَّذِي تَعَرَّضُوا لَهُ مَثَارُ الْعَجَبِ، ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَهُمُ الْمَوْصُوفَ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَسُوقُهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ، فَتَهَوُّكُهُمْ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ تَهَوُّكُ مَنْ لَا يُبَالِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute