وَلَا أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ ٢٢ مُدَّةُ كُلِّ أَيَّامِ الْأَرْضِ زَرْعٌ وَحَصَادٌ وَبَرْدٌ وَحَرٌّ وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ لَا تَزَالُ) .
وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مُبَارَكَةُ اللهِ لِنُوحٍ وَبَنِيهِ وَإِكْثَارُهُمْ لِيَمْلَئُوا الْأَرْضَ، وَتَأْمِينُهُمْ مِنْ عَوْدَةِ الطُّوفَانِ بِإِعْطَائِهِمْ مِيثَاقَهُ وَهُوَ قَوْسُ السَّحَابِ، بَلْ جَعَلَهَا أَمَانًا لِكُلِّ الْأَحْيَاءِ، وَقَالَ فِي أَبْنَاءِ نُوحٍ ٩، ١٩ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ بَنُو نُوحٍ وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الْأَرْضِ) وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ لَعَنَ كَنْعَانَ بْنَ يَافِثَ وَجَعَلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ عَبِيدًا لِذُرِّيَّةٍ سَامٍ وَحَامٍ لِأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَوْرَةِ جَدِّهِ نُوحٍ إِذْ تَعَرَّى وَهُوَ سَكْرَانُ.
هَذِهِ خُلَاصَةُ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا وَلَا أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللهِ، وَلَا أَنَّهُ آمَنَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كَافِرٌ غَرِقَ مَعَ قَوْمِهِ وَلَا امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ، وَلَا نَدْرِي أَكَانَ كُفْرُهَا قَبْلَ الطُّوفَانِ فَغَرِقَتْ أَمْ بَعْدَهُ. وَلَكِنَّهُ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فِي أَنَّ سَبَبَ الطُّوفَانِ غَضَبُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِفَسَادِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَلَكِنْ بِأُسْلُوبِهِ الْمُشَبِّهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْإِنْسَانِ فِي صِفَاتِهِ الْبَاطِنَةِ كَصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ.
عُمُرُ نُوحٍ وَتَعْلِيلُ طُولِهِ كَأَعْمَارِ مَنْ قَبْلَهُ:
وَيُوَافِقُ الْقُرْآنَ سِفْرُ التَّكْوِينِ تَقْرِيبًا فِي عُمُرِ نُوحٍ وَهُوَ ٩٥٠ سَنَةً، وَلَكِنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ قَدِ اشْتَبَهَ فِيهَا النَّاسُ مُنْذُ قُرُونٍ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ السَّنَةَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَقَلُّ مِنَ السَّنَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَعْرُوفَةِ بَعْدَ تَدْوِينِ التَّارِيخِ، كَمَا أَنَّ الْأَيَّامَ وَالسِّنِينَ فِي زَمَنِ التَّكْوِينِ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢٢: ٤٧) وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ بَاطِلٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي أَعْمَارِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الطُّوفَانِ أَوْ قَبْلَ مَا كُشِفَ مِنْ آثَارِ التَّارِيخِ لَا يُقَاسُ بِمَا
عُرِفَ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْعُمْرَانِ وَمَعِيشَةَ الْإِنْسَانِ الْفِطْرِيَّةَ كَانَتْ أَسْلَمَ لِلْأَبْدَانِ، وَأَقَلَّ تَوْلِيدًا لِلْأَمْرَاضِ، وَقَوْلُ اللهِ هُوَ الْحَقُّ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
سِفْرُ التَّكْوِينِ لَيْسَ مِنْ تَوْرَاةِ مُوسَى: وَسِفْرُ التَّكْوِينِ هَذَا لَيْسَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ فَضْلًا عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَوَضَعَهَا بِجَانِبِ تَابُوتِ الْعَهْدِ كَمَا ذُكِرَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ قَدْ فُقِدَتْ هِيَ وَالتَّابُوتُ بِحَرِيقِ الْهَيْكَلِ، وَهَذِهِ الْأَسْفَارُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ الْيَهُودِ قَدْ كُتِبَتْ كُلُّهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ سَبْيِ بَابِلَ فِي سَنَةِ ٥٣٦ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَقُولُونَ إِنَّ عِزْرَا هُوَ الَّذِي كَتَبَهَا وَجَمَعَهَا، وَلَيْسَ لَهَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ إِلَيْهِ وَعَمَّ اتِّصَالُهَا بِمَنْ قَبْلَهُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ جَبْرَ ضُومَطَ مُدَرِّسُ الْبَلَاغَةِ فِي الْجَامِعَةِ الْأَمْرِيكَانِيَّةِ بِبَيْرُوتَ أَلَّفَ رِسَالَةً رَجَّحَ فِيهَا أَنَّ سِفْرَ التَّكْوِينِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute