وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ١٧: ٤ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ وَطَنَهُمْ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ.
وَلَكِنْ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ تَدُلُّ - بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ وَالتَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا فِي زَمَنِ نُوحٍ إِلَّا قَوْمُهُ، وَأَنَّهُمْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ بِالطُّوفَانِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ فِيهَا غَيْرُ ذُرِّيَّتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطُّوفَانُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ سَهْلِهَا وَجِبَالِهَا لَا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْيَابِسَةُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ صَغِيرَةً لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِالتَّكْوِينِ وَبِوُجُودِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ عُلَمَاءَ التَّكْوِينِ وَطَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجِيُولُوجِيَّةِ) يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ عِنْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الشَّمْسِ كُرَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً، ثُمَّ صَارَتْ كُرَةً مَائِيَّةً، ثُمَّ ظَهَرَتْ فِيهَا الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ.
وَقَدِ اسْتُفْتِيَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِمَا نَنْقُلُهُ هُنَا بِنَصِّهِ مِنْ (ص ٦٦٦) مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ وَهُوَ
: فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي طُوفَانِ نُوحٍ:
جَوَابُ سُؤَالٍ وَرَدَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ حَضْرَةِ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ الْقُدُومِيِّ خَادِمِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ بِمَدِينَةِ نَابِلْسَ، وَفِيهِ نَصُّ السُّؤَالِ:
وَصَلَنَا مَكْتُوبُكُمُ الْمُؤَرَّخُ فِي ٤ شَوَّالٍ سَنَةَ ١٣١٧ هـ الَّذِي أَنْهَيْتُمْ بِهِ أَنَّهُ ظَهَرَ قِبَلَكُمْ نَشْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الطَّلَبَةِ دَيْدَنُهُمُ الْبَحْثُ فِي الْعُلُومِ وَالرِّيَاضَةِ، وَالْخَوْضُ فِي تَوْهِينِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ الْآنَ: أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لِأَنْحَاءِ الْأَرْضِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْأَرْضِ الَّتِي كَانَ بِهَا قَوْمُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّهُ بَقِيَ نَاسٌ فِي أَرْضِ الصِّينِ لَمْ يُصِبْهُمُ الْغَرَقُ، وَأَنَّ دُعَاءَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَلَاكِ الْكَافِرِينَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِكُفَّارِ قَوْمِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ، بِدَلِيلِ مَا صَحَّ ((وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً)) .
فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةَ نَاطِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (٧١: ٢٦) وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) (٣٧: ٧٧) وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) (١١: ٤٣) قَالُوا: هِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ جَهَابِذَةَ الْمُحَدِّثِينَ أَجَابُوا بِأَنَّهُ صَحَّ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ، وَيَكُونَ عُمُومُ بِعْثَتِهِ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا لِعَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ غَيْرَ قَوْمِهِ، وَلَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ - سَخِرُوا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute