للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَتَتَّسِعُ الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِهَذَا الرَّأْيِ، فَفِي كِتَابِ الْمَوَاقِفِ وَغَيْرِهِ: الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا الْمَعْمُورَ كَانَ مَغْمُورًا بِالْمِيَاهِ بِدَلِيلِ مَا يُوجَدُ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ مِنَ الْأَصْدَافِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ.

وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِيمَا يُعَذَّبُونَ بِهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ كَقَحْطِ الْمَطَرِ وَانْحِبَاسِهِ، وَجَفَافِ الْمِيَاهِ وَغُئُورِهَا، وَشِدَّةِ صَخْدِ الشَّمْسِ وَرَمْضَائِهَا، وَقَدِ اشْتَدَّ هَذَا فِي أَكْثَرِ بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ وَأَمْرِيكَةَ، فَاحْتَرَقَ جُلُّ زَرْعِهِمُ الصَّيْفِيُّ وَهَلَكَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ مَوَاشِيهِمْ، بَلْ مَاتَ بِهِ أُلُوفٌ، مِنْهُمْ مِئَاتٌ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ نِيُويُورْكَ وَحْدَهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثُغُورِ الْعَالَمِ، فَأَكْثَرُ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَامِ فِي سَخَطِ اللهِ - تَعَالَى - بَيْنَ حَرِيقٍ وَغَرِيقٍ جَزَاءً بِمَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ فِي سِنِي الْحَرْبِ الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ، ثُمَّ بِمَا أَسْرَفُوا بَعْدَهَا فِي الْفُجُورِ وَالشُّرُورِ وَإِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَإِنْفَاقِ مَا زَادَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِحَرْبٍ شَرٍّ مِنْهَا، وَبِاشْتِدَادِ ظُلْمِهِمْ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهِمُ الرَّسْمِيَّةِ وَغَيْرِ الرَّسْمِيَّةِ، وَلَا يَعْتَبِرُ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ فَيَتُوبُوا

مِنْ ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهَا عَذَابٌ وَلَا نُذُرٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، فَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ مِنْهُمْ فَأَمْرُهُمْ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ إِلَهٍ لِلْعَالَمِ فَلَا يُسْنِدُونَ إِلَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ إِلَّا مَا يَجْهَلُونَ لَهُ سَبَبًا مِنْ نِظَامِ الطَّبِيعَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَجْرِي فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِيهِ مَشِيئَةٌ وَحِكْمَةٌ غَيْرَ سَبَبِهِ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ لَا تَتَبَدَّلُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ صَلَاحًا وَفَسَادًا، بَلْ يَعُدُّ الْمَادِّيُّونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ بِنِظَامِ الْأَسْبَابِ بُرْهَانًا عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّعْطِيلِ، وَعَلَى جَهْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرَقِّي الْعُلُومِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِمْ أَنَّ الْمُسْتَحْوِذَ عَلَى عُقُولِهِمْ هُوَ مَا يُسَمُّونَهُ ((نَظَرِيَّةَ الْمِيكَانِيكِيَّةِ)) وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ كَآلَةٍ كَبِيرَةٍ تُدَارُ بِقُوَّةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ فَيَتَحَرَّكُ بَعْضُ أَجْزَائِهَا بِحَرَكَةِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ لِلْقُوَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لَهَا كُلِّهَا عِلْمٌ وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَنَقُولُ لَهُمْ: مَنْ أَوْجَدَ الْقُوَّةَ وَمَنْ يُحَرِّكُهَا وَيَحْفَظُ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِيهَا؟ !

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْدَاثِ الْعَالَمِ سَبَبًا، وَإِنَّ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ نَوَامِيسَ وَسُنَنًا، وَإِنَّهَا عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ، فَصَحِيحٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَةُ، وَأَوَّلُهَا آيَاتُ الْقَدَرِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّتِي يَفْهَمُهَا الْجَمَاهِيرُ بِضِدِّ مَعْنَاهَا، وَمِنْهَا الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ سُنَنَ اللهِ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمَصَائِبِ وَالنِّقَمِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ٨: ٢٥ وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالنِّعَمِ: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ١٧: ٢٠ أَيْ مَا كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَلَا بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ.

وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَنَا مَعَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، أَنَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَصَائِبِ مَشِيئَةً خَاصَّةً وَحِكْمَةً بَالِغَةً كَقَوْلِهِ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣٠: ٤١) وَقَوْلِهِ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (٤٢: ٣٠) فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي أَسْبَابِ الْمَصَائِبِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَمِمَّا جَاءَ فِي الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>