للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوْ عُشْرَ الْعُشْرِ مَثَلًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مُطْلَقٌ بِالْإِحْسَانِ مَوْكُولٌ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْمُعْطِي وَحَالَةِ الْمُعْطَى.

وَوِقَايَةُ الْإِنْسَانِ الْمُحْتَرَمِ مِنَ الْهَلَاكِ وَالتَّلَفِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَقْدِيرَ لَهُ. وَقَدْ أَغْفَلَ أَكْثَرُ النَّاسِ هَذِهِ الْحُقُوقَ الْعَامَّةَ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَاةِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الْمُعْتَدِلَةِ الشَّرِيفَةِ، فَلَا يَكَادُونَ يَبْذُلُونَ شَيْئًا لِهَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَّا الْقَلِيلَ النَّادِرَ لِبَعْضِ السَّائِلِينَ، وَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ النَّاسِ اسْتِحْقَاقًا ; لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا السُّؤَالَ حِرْفَةً وَأَكْثَرُهُمْ وَاجِدُونَ، وَلَوْ أَقَامُوهَا لَكَانَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَايِشِهِمْ خَيْرًا مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَتَصَوَّرُ الْبَاحِثُونَ مِنْ مَذَاهِبِ الِاشْتِرَاكِيِّينَ وَالْمَالِيِّينَ.

ثُمَّ قَالَ: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) أَيْ: أَدَّاهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَقْوَمِهِ وَأَدَامَهَا، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الرُّوحَانِيُّ الرَّكِينُ لِلْبِرِّ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي يُكَرِّرُ الْقُرْآنُ الْمُطَالَبَةَ بِهَا لَا تَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَقْوَالِهَا فَقَطْ. وَإِنْ جَاءَ بِهَا الْمُصَلِّي تَامَّةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ ; لِأَنَّ مَا يَذْكُرُونَهُ هُوَ صُورَةُ الصَّلَاةِ وَهَيْئَتُهَا، وَإِنَّمَا الْبِرُّ وَالتَّقْوَى فِي سِرِّ الصَّلَاةِ وَرُوحِهَا الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَقَلْبِ الطِّبَاعِ السَّقِيمَةِ، وَالِاسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بِالْغَرَائِزِ الْمُسْتَقِيمَةِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢) فَمَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ تَطَهَّرَتْ نَفْسُهُ مِنَ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ، وَمِنَ الْبُخْلِ وَالْمَنْعِ إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ، وَكَانَ شُجَاعًا كَرِيمًا قَوِيَّ الْعَزِيمَةِ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ لَا يَرْضَى بِالضَّيْمِ، وَلَا يَخْشَى فِي الْحَقِّ الْعَذْلَ وَاللَّوْمَ ; لِأَنَّهُ بِمُرَاقَبَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي صَلَاتِهِ، وَاسْتِشْعَارِهِ عَظَمَتَهُ وَسُلْطَانَهُ الْأَعْلَى فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ يَكُونُ اللهُ تَعَالَى غَالِبًا عَلَى أَمْرِهِ، فَلَا يُبَالِي مَا لَقِيَ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي سَبِيلِهِ، وَمَا أَنْفَقَ مِنْ فَضْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَصُورَةُ الصَّلَاةِ لَا تُعْطِي صَاحِبَهَا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَلَيْسَتْ بِمُجَرَّدِهَا مِنَ الْبِرِّ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا شُرِعَتْ

لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ السَّنَاءِ الْإِلَهِيِّ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى تَوَجُّهِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي ذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَدُعَائِهِ، وَهُوَ رُوحُهَا وَسِرُّهَا الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ وَبِالصَّبْرِ عَلَى جَمِيعِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، فَهَذَا هُوَ الْبِرُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا وَالِاسْتِعَانَةِ بِهَا، وَإِنَّمَا نُعِيدُ التَّذْكِيرَ كُلَّمَا أَعَادَهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ.

(وَآتَى الزَّكَاةَ) الْمَفْرُوضَةَ ; أَيْ: أَعْطَاهَا مُسْتَحِقِّيهَا. قَلَّمَا تُذْكَرُ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَيُقْرَنُ بِهَا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ، فَالصَّلَاةُ مُهَذِّبَةٌ لِلرُّوحِ، وَالْمَالُ - كَمَا يَقُولُونَ - قَرِينُ الرُّوحِ، فَبَذْلُهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ رُكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ الْبِرِّ، وَآيَةٌ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ عَلَى مُحَارَبَةِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ إِلَّا تَقْلِيدَ بَعْضِ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا الْمَيِّتُونَ، وَنَشَرَهَا الرُّؤَسَاءُ وَالْحَاكِمُونَ، يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ عَمْدًا

<<  <  ج: ص:  >  >>