للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ فِيهِ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ، وَالْمَعْنَى - حَتَّى لَا يُقَالَ: اللهُ فَعَلَ كَذَا، اللهُ أَمَاتَ وَأَحْيَا مَثَلًا، لِذَهَابِ الْإِيمَانِ بِهِ - تَعَالَى -، وَالِاسْمُ الْمُفْرَدُ فِي ذِكْرِهِمْ يُكَرِّرُونَهُ بِالسُّكُونِ لَا يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَى جُمْلَةٍ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ حَصْرُ التَّوَجُّهِ وَجَمْعُ الْهِمَّةِ بِمَا جَرَّبَهُ الرِّيَاضِيُّونَ، وَجَهِلَهُ الْمُقَلِّدُونَ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ: آيَاتُهُ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ) :

(وَفِيهِ أَرْبَعَةُ شَوَاهِدَ عَلَى مَا قَبْلَهُ) :

الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ آيَةِ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ لِلْإِلَهِ الْوَاحِدِ اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: - وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا - ٣ إِلَخْ. فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَبَّ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِمْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا الْمَادِّيَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَمَا يُفَضِّلُ بِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ مِنْ عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَخُلُقٍ، وَأَنَّ الْوَسِيلَةَ لِهَذَا وَذَاكَ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَلِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ هِيَ اسْتِغْفَارُهُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ تَقْصِيرٍ فِي طَاعَتِهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ آيَاتِ هِدَايَتِهِ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ شَخْصِيٌّ فِي إِعْطَاءِ هَذَا وَلَا ذَاكَ بِتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَهُ، فَيُدْعَى مَنْ دُونَهُ أَوْ يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعَهُ فِي طَلَبِهِ، وَمَنْ رَاقَبَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا فِي هَذَا شَاهَدَ تَأْثِيرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَازْدَادَ إِيمَانًا بِرَبِّهِ، وَشَاهَدَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُسْتَغْفِرِينَ التَّوَّابِينَ، وَضِدُّهُ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُصِرِّينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ، فَإِنَّهُ يَرَى أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ مَتَاعًا فِي هَمٍّ وَاصِبٍ، وَتَنْغِيصٍ دَائِبٍ ; لِأَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، لَا مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْرَاضِ فِي الْيَدِ.

وَلِهَذَا كَانَ رُسُلُ اللهِ الْأَوَّلُونَ يَأْمُرُونَ أَقْوَامَهُمْ بَعْدَ التَّوْحِيدِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ أَيْضًا كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ (٥٢) مِنْ قِصَّةِ هُودٍ، وَقَدْ جَعَلَ جَزَاءَهُ إِرْسَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ سَبَبُ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ لَهُمْ، إِذْ كَانَ هَذَانَ أَهَمَّ مَا يَطْلُبُهُ قَوْمُهُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَى مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ مِنْهُ بِآلِهَتِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ (٦١) مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ، وَقَدْ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ فَضْلِهِ - تَعَالَى - عَلَى قَوْمِهِ بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَاسْتِعْمَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَفِي مَعْنَاهَا الْآيَةُ (٩٠) مِنْ قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

الشَّاهِدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا - ٦ الْآيَةَ. أَيْ: عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي خَلْقِ رِزْقِ هَوَامِّهَا وَأَنْعَامِهَا وَطَيْرِهَا وَوَحْشِهَا وَإِنْسِهَا وَجِنِّهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي تَسْخِيرِ هَذَا الرِّزْقِ لَهَا، وَلَا فِي إِيصَالِهِ إِلَيْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا وَسَاطَةٍ أُخْرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا،

فَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مَنْ خَلْقِهِ غَيْرُ بَعْضِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْمُكَلَّفِينَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>