الْبَشَرِ غَيْرَ مَا خَصَّهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، دُونَ شُئُونِ رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ مَا خَصَّ بِهِ مَلَائِكَتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ هِدَايَةَ أَحَدٍ إِلَى الدِّينِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ هِدَايَتَهُمْ خَاصَّةٌ بِالتَّبْلِيغِ وَالتَّعْلِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَحِكَايَةُ نُوحٍ مَعَ ابْنِهِ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَاضِحَةٌ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَ (مِنْهَا) فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا عَلِمْتَ مِنْ آيَاتِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي اقْتِرَاحِهِمْ مَجِيءَ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا
أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - ١٢ وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: - وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ - ٣١ وَتَقَدَّمَ مَا فِي مَعْنَاهُ عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرِيبًا، وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى.
(وَمِنْهَا) فِي احْتِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُسُلِهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ فِي قِصَّةِ نُوحٍ: - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا - ٢٧ وَقَدْ قَالَ مِثْلَ هَذَا سَائِرُ أَقْوَامِ الرُّسُلِ بَعْدَهُ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَلَوْ كَانَ أُولَئِكَ الرُّسُلُ فِي عَصْرِهِمْ عَلَى غَيْرِ مَا يَعْهَدُ أَقْوَامُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، بِأَنْ يَكُونُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ، لَمَا احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ كَمَا يَدَّعِي الَّذِينَ ضَلُّوا مِنْ أَقْوَامِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ عَمَّا جَاءُوا بِهِ مَعَ دَعْوَى اتِّبَاعِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ هُمْ وَبَعْضُ مَنْ وَصَفُوا بِالصَّلَاحِ وَالْوِلَايَةِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ، وَيُشْقُونَ وَيُسْعِدُونَ، وَيُمِيتُونَ وَيُحْيُونَ: أَحْيَاؤُهُمْ وَأَمْوَاتُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ، بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ حَيَاةً مَادِّيَّةً بَدَنِيَّةً يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَ مَنْ يَدْعُوهُمْ وَيَسْتَغِيثُ بِهِمْ، وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ، وَيَسْتَجِيبُونَ دُعَاءَهُمْ فِيهَا، وَقَدْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ فِي خَارِجِهَا، يُخَالِفُونَ بِهَذِهِ الدَّعَاوَى مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَاتِ فِي التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَوْنِهِمْ بَشَرًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَأَنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَآيَاتِهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ بَعْضِ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ فِي حَيَاةِ الشُّهَدَاءِ الْبَرْزَخِيَّةِ، فَيَقِيسُونَ عَلَيْهَا بِأَهْوَائِهِمْ حَيَاةَ أَوْلِيَائِهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَافْتِرَاءً عَلَى اللهِ، وَحَسْبُنَا هُنَا التَّذْكِيرُ بِمَا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّنَا أَنْ يَرُدَّ بِهِ عَلَى الَّذِينَ سَأَلُوهُ بَعْضَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ: - قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا - ١٧: ٩٣؟
(الثَّالِثَةُ: بَيِّنَاتُهُمْ وَآيَاتُهُمْ) مَا مِنْ نَبِيٍّ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللهِ إِلَّا وَجَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ مِنْ حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ، وَكَانَتْ تَشْتَبِهُ عَلَى عَامَّتِهِمُ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ بِالسِّحْرِ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَمْرٌ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُونَ سَبَبَهُ، وَيَرَوْنَهُ مِنَ الدَّجَّالِينَ وَالْمُرْتَزِقَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute