الْمُحَمَّدِيِّ، وَبَيَّنَّا أَنَّ آيَاتِ مُوسَى كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْهَا مَظْهَرًا، وَأَدَلَّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَتَأْيِيدِهِ لَهُ، لِإِيمَانِ أَعْلَمِ عُلَمَاءِ السِّحْرِ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِمُوسَى كَمَا كَانَتْ تِلْكَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِعِيسَى إِذِ اتَّخَذُوهُ بِهَا إِلَهًا، فَالَّذِينَ فُتِنُوا وَضَلُّوا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ الصُّورِيَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، أَضْعَافُ أَضْعَافِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْحَقِيقِيِّ مِنْهَا، فَإِنَّ الْمَلَايِينَ مِنْ مُدَّعِي اتِّبَاعِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَّبِعُونَ الدَّجَّالِينَ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِاسْتِخْدَامِهِمْ لِلْجِنِّ، وَسَدَنَةِ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّصَرُّفَ لِمَنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَوَظِيفَةَ رِسَالَاتِهِمْ.
(الْخَامِسَةُ: حُجَّةُ الرُّسُلِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ بِإِخْلَاصِهِمْ لِلَّهِ وَعَدَمِ طَلَبِ أَجْرٍ عَلَى عَمَلِهِمْ) :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُكَرَّرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهَا هُنَا حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ - ٢٩ وَتَقَدَّمَ عَنْهُ مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِلَفْظِ الْأَجْرِ (وَمِنْهَا) عَنْ هُودٍ: - يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ - ٥١، وَرَاجِعْ مِثْلَ هَذَا عَنِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ (٢٦: ١٠٩ و١٢٧ و١٤٥ و١٦٤ و١٨٠) .
وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِدَّةِ سُوَرٍ: الْأَنْعَامِ (٦: ٩٠) وَيُوسُفَ (١٢: ١٠٤) وَالشُّورَى (٤٢: ٢٣) وَنَصُّ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَ تَبْشِيرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِرَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ: - ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ - وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا الْبَتَّةَ، سُنَّةَ اللهِ فِي النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي أُولِي الْقُرْبَى لَكُمْ وَصِلَةِ أَرْحَامِكُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ مِمَّا يَحْمَدُونَهُ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ لِتَعَصُّبِهِمْ لِأَنْسَابِهِمْ، وَيُفَسِّرُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - ٣٤، ٧٤.
وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ جَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا، وَفَسَّرُوا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبِي بِمَوَدَّةِ قَرَابَتِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَصُّوهَا بِابْنِ عَمِّهِ عَلِيٍّ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، دُونَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَائِرِ ذُرِّيَّةِ أَعْمَامِهِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَاطِلُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَاقِبِ وَدَوَاوِينِ الشِّعْرِ، وَجَعَلُوهُ عَهْدًا مِنَ اللهِ عَاهَدَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعِرَاقِ فِي عَصْرِهِ عَبْدُ الْبَاقِي الْعُمْرِيُّ:
وَعَهْدُ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ... لِمَنْ بِهِ الْوَلَا قَدْ وَجَبَا
وَهَذَا التَّأَمُّلُ تَحْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ وَطَعْنٌ شَنِيعٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْرَاجِهِ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَمِيعِ رُسُلِهِ بِأَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِهِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute