للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَوَضَحَ هَذَا بِضَرْبِهِ الْمَثَلَ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ فِيهِمَا: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ) :

وَصَفَ الْقُرْآنُ الْكَفَّارَ بِهَذَا الْجَهْلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: - أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ - ٦٢ وَمِثْلُهُ فِي قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كِتَابِهِ قَالَ: - وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ - ١١٠ أَكَّدَ شَكَّ قَوْمِ مُوسَى فِي كِتَابِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي قَوْمِ مُحَمَّدٍ قَبْلَ إِيمَانِهِمْ - وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا - إِلَى قَوْلِهِ: - إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - ٢: ٢٣ إِنَّكُمْ فِي رَيْبٍ مِنْهُ، فَكَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَى الرَّيْبِ. وَفِي سَائِرِ السُّوَرِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا فِي الْكَفَّارِ كَوَصْفِهِمْ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ وَبِالْخَرْصِ وَنَفْيِهِ الْعِلْمَ عَنْهُمْ، فَهَذِهِ شَوَاهِدُ فِي وَصْفِ حَالِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ قِصَصِهِمْ دَالَّةً عَلَى مُطَالَبَةِ الْإِسْلَامِ النَّاسَ بِالْعِلْمِ وَفِقْهِ الشَّرَائِعِ وَبَرَاهِينِ الْعَقَائِدِ، وَأَنَّى لَهُمْ بِهِ وَالتَّقْلِيدُ يَصُدُّهُمْ عَنِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ؟ !

(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التَّقْلِيدُ) :

الْمُرَادُ مِنْهُ اتِّبَاعُ بَعْضِ النَّاسِ لِمَنْ يُعَظِّمُهُ أَوْ يَثِقُ بِهِ أَوْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ فِيمَا لَا يَعْرِفُ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَخَيْرٌ هُوَ أَمْ شَرٌّ، وَمَصْلَحَةٌ أَمْ مَفْسَدَةٌ، وَأَصْلُ التَّقْلِيدِ فِي اللُّغَةِ تَحْلِيَةُ الْمَرْأَةِ بِالْقِلَادَةِ، أَوِ الرَّجُلِ بِالسَّيْفِ، أَوِ الْهَدْيِ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ (وَهُوَ بِالْفَتْحِ مَا يَهْدِيهِ مُرِيدُ النُّسُكِ إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْأَنْعَامِ) وَتَقْلِيدُهُ: أَنْ يُعَلِّقَ عَلَيْهِ جِلْدَةً أَوْ غَيْرَهَا لِيُعْرَفَ أَنَّهُ هَدْيٌ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ، يُقَالُ: قَلَّدَهُ السَّيْفَ أَوِ الْعَمَلَ فَتَقَلَّدَهُ، وَقَوْلُهُمْ: قَلَّدَ فُلَانٌ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ مَثَلًا. مَعْنَاهُ: جَعَلَ رَأْيَهُ وَظَنَّهُ الِاجْتِهَادِيَّ فِي الدِّينِ قِلَادَةً لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: تَقَلَّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. وَعَرَّفَ

الْفُقَهَاءُ التَّقْلِيدَ بِأَنَّهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَعْرِفُ دَلِيلَهُ، وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْمَعْرُوفُونَ النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَ أَحَدًا إِلَّا فِيمَا عَرَفَ دَلِيلَهُ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ حَقٌّ، فَالْعَالِمُ مُبَيِّنٌ لِلْحُكْمِ لَا شَارِعَ لَهُ، وَالتَّقْلِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى شَأْنُ الطِّفْلِ مَعَ وَالِدَيْهِ وَالتِّلْمِيذِ مَعَ أُسْتَاذِهِ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِالرَّاشِدِ الْمُسْتَقِلِّ، وَلَكِنَّ الْمَرْءُوسِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، وَالْعَامَّةَ مَعَ الزُّعَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، كَالْأَطْفَالِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَأَمَّا تَلَقِّي النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَالسُّنَنِ الْعَمَلِيَّةِ عَنْ نَاقِلِيهَا فَهُوَ لَيْسَ بِتَقْلِيدِهِمْ، وَكَذَا أَخْذُ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ عَنْ مُتْقِنِيهَا. وَأَمَّا تَشَبُّهُ الشَّرْقِيِّينَ بِالْإِفْرِنْجِ فِيمَا لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا تَعْظِيمُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ وَلَا سِيَّمَا أَزْيَاءُ النِّسَاءِ وَالْعَادَاتُ فَكُلُّهُ مِنَ التَّقْلِيدِ الضَّارِّ، الدَّالِّ عَلَى الصَّغَارِ.

وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ، أَنْكَرَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ جُمُودَ التَّقْلِيدِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لَا لِأَجْلِ أَنْ يُقَلِّدُوا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>