(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) :
(فِي مَسَاوِئِ النَّفْسِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَسَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَالْعَادَاتِ وَفِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً) :
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: خَسَارَةُ النَّفْسِ) :
أَبْدَأُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَتِيجَةً تَابِعَةً لِمَفَاسِدَ ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَهَا لِغَفْلَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا عَنْهَا، عَلَى تَكْرَارِ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَانْفِرَادِهِ دُونَ جَمِيعِ كُتُبِ الْعِلْمِ الْبَشَرِيَّةِ وَالسَّمَاوِيَّةِ بِالتَّذْكِيرِ بِهَا، فَقَالَ هُنَا فِي الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا، الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِانْتِفَاعِ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ: - أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ - ٢١ و٢٢ ثُمَّ ذَكَرَ أَضْدَادَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَضَرَبَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَثَلَ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، فَكَانَ هَذَا آخِرَ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنَ الْكَلَامِ فِي رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَى هَذِهِ الْخَسَارَةِ هُنَا يُفْهَمُ مِمَّا قَبْلَ الْآيَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُمَا، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ فِطْرَتَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةَ فَسَدَتْ كُلُّهَا فَفَقَدَتِ اسْتِعْدَادَهَا الْخَاصَّ بِهَا إِلَخْ، أَرَأَيْتَ مَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ لَهُ؟ أَيُغْنِي عَنْهُ رِبْحُ تِجَارَتِهِ وَكَثْرَةُ مَالِهِ وَجَاهُهُ بِالْبَاطِلِ؟ كَلَّا، إِنَّكَ تَفْهَمُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْكَبِيرَةِ الْمُرْعِبَةِ بِاسْتِعْمَالِ عَوَامِّ الْمِصْرِيِّينَ لَهَا مَا لَا تَفْهَمُهُ مِنْ مِثْلِ تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ، يَقُولُونَ فِيمَنْ فَسَدَ خُلُقُهُ وَضَاعَ شَرَفُهُ وَصَارَ مَهِينًا مُحْتَقَرًا: فُلَانٌ خَسِرَ - أَيْ ذَهَبَتْ مَزَايَاهُ وَفَضَائِلُهُ حَتَّى لَمْ تَبْقَ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْوُجُودِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقْدُ هِدَايَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَهُمَا أَوَّلُ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ) :
وَهَذَا مَعْنًى يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ قَرَّرَهُ الْقُرْآنُ كَثِيرًا بِأَسَالِيبَ بَلِيغَةٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ قَبْلَ مَسْأَلَةِ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي أَهْلِهَا: - مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ - ٢٠ وَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ سَمَاعَهَا وَلَمْ يَصْغُ لَهَا، فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا آيَاتِ اللهِ وَحُجَجَهُ فِي كِتَابِهِ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَ السَّمْعِ لَهُ إِذَا تُلِيَ، لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ فَيُحَوِّلَهُمْ عَمَّا كَانُوا فِيهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: - إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا
عَلَيْهَا - ٢٥: ٤٢ وَلَوْ أَلْقَوُا السَّمْعَ لَمَا سَمِعُوا سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَأَمُّلٍ، وَلَوْ سَمِعُوا لَمَا عَقَلُوا وَفَقِهُوا كَمَا وَصَفَهُمْ فِي الْأَنْفَالِ (٨: ٢١ - ٣٣) وَقَالَ هُنَا حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مَدْيَنَ: - قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ - ٩١ وَكَذَلِكَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةَ إِذَا هُمْ نَظَرُوا دَلَائِلَهَا وَمِنْهَا رُؤْيَةُ الْمُصْطَفِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: - وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ - ٧: ١٩٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute